بلبيس
وأنت تستطيع أن تنطق اسم هذه البلدة كما يحلو لك ، فليس فى وسع أى إنسان أن
يخطى" فى ذلك .فلك أن تقول ( َبلبيس) بفتح الباء و (ِ بلبيس) بكسر الباء- كما جاء
في مراصد الاطلاع ولك أن تقول ( بلبيس) كما حكى النابلسي وقد اختلف في
أصل هذا الاسم فقيل : إن أصله ( بيس ) بحذف الباء الأولى واللام ، و ( بيس ) هذاهم
امرأة من الملوك القدامى نزلت هناك فسمى المكان باسمها - ويقال إن اسمها مشتق من (
فلبيس ) ولعل هذا أقرب إلى المعقول ، فان
حرف الفاء والباء قريبان في النطق وكثيراً ما يحل أحدهما محل الآخر .
و تقع بلبيس على الحافة الشرقية للسهل المنزرع من أرض الوجه البحرى عند
اتصاله بالصحراء، وعلى ضفة وادى طميلات المشهور في التاريخ القديم
وضفة من فروع النبل التى طمرت ( الفرع البليوزى ) نسبة إلى مدينة ( بليوز) أو الفرما ، وأيضا على القناة
القديمة التي كانت تصل النيل بالبحر الأحمر في العصور الماضية والتي سدت ثم حفرت عدة مرات ، وكان شارع الخليج
المصرى جزءاً منها في آخر عهد الناس به،وعلى ضفة ترعة الاسماعيلية الحديثة أو (
الحلوة ) كما يسميها أهل الشرقية ، وعلى الخط الحديدي الرئيسي
الموصل من القاهرة إلى المنصورة فدمياط ، وعلى طريق المعاهدة الكبير الحديث
وعلى طرق زراعية أخرى مختلفة .
وقد جعل لها موقعها هذا شأنا عظيما فى التاريخ، فهى على الطريق الذى سارت
فيه جميع الهجرات والغزوات من الشرق . فأكثر المؤرخين يرجحون أنه الطريق الذى سلكه
إبراهيم ويعقوب ويوسف عليهم السلام ، وأنه الطريق الذى خرج فيه بنو
إسرائيل، وأقبل منه المسيح، والذي كان في كل الأوقات طريق التجار وأهل الأسفار والحجاج ، تجتازه القوافل بين آسيا
وأفريقية .
وهو الطريق الذى سلكه العرب فى فتح مصر وسلكته جيوش الصليبيين أكثر من مرة
، ذلك لأن كل ما في الطريق من مشقة للمتقدم من الباب الشرقي لمصر هو وعورة السير
في الصحراء ، أما أى طريق غيره فيحتوى على شبكة من القنوات ، وفروع
النيل القديمة تصلح أمكنة للدفاع والمفاجأة المهاجم الذي لا يعرف تخطيط البلاد،
ولم تكن هناك حينذاك العدة الحديثة لنصب الجسور .
من أجل هذا اقترن اسم بلبيس بالكثير من أحداث مصر ، وتردد فى التاريخ وفي
القصص وفي الخيال على السواء ، فأرض بلبيس ، هى المعروفة فى
التوراة باسم ( جاشان ) حيث نزل يعقوب على ابنه يوسف وتمتد أرض جاشان هذه من بلبيس إلى العلاقمة.
وأهم ما يقترن به اسم بلبيس من الناحية التاريخية فتح العرب لمصر بقيادة
عمرو بن العاص ، فقد وقف عندها الروم بعد الفرما ، وعندها جاءت
العرب جماعة من أهل مصر عليها أحد الأساقفة ليفاوضوا عمرا فطلب إليهم أن يساعدوا المسلمين على الروم لما بين القبط
والعرب من قرابة في النسب ، وأمهلهم أربعة أيام
ليأتوا إليه بما استقروا عليه . ولكن القائد الرومى هجم عليهم فى اليوم الثاني بعد
المفاوضة ، فدارت عليه الدائرة وتمزق جيشه، ولبث العرب عند بلبيس شهراً من الزمان،
حدث في أثنائه قتال شديد ، وقتل من
العرب فيه عدد ليس بالقليل ... وفي بلبيس قتل أيضاً الخليفة الفاطمي العزيز
بالله بعد لقاء مؤثر بينه وبين ابنه الحاكم بأمر الله في
شهر أكتوبر سنة ٩٩٦ م .
وعندها أيضا التفت جيوش الصليبيين بجيش ضرغام في أيام النزاع بينه وبين
شاور ، وهو التراع الذي مهد لاستيلاء صلاح الدين على أزمة الحكم في
مصر. وكانت أيام الحكم العربي قاعدة خط (الحوف) وكرسيه ومحل إقامة حاكمه، وكان يمر بوسطها خط مقتطع من النيل
وقت فيضانه يسمى بخليج المنجي ، وبروى جميع أرض
الخط .
هذا من الناحية التاريخية
أما من ناحية القصص والخيال ، فأهم ما يقترن به حينذاك اسم بلبيس هو قصة
(أرمنوسة) ابنة المقوقس كما يسميه مؤرخوو حاكم مصر قبل الروم . فقد
ذكر (الواقدى) من مؤرخي العرب ونقل عنه غيره من المؤرخين، أن المقوقس زوج ابنته أرمنوسة من ( قسطنطين ) بن هرقل وجهزها
بأموالها وجواريها وعلمائها وحشمها ليبني
بها في مدينة (قيسارية) فخرجت إلى بلبيس وأقامت بها في طريقها حتى وصل إليها عمرو
بن العاص فكانت من أشجع من دافع عن المدينة
. ولما انهزم الروم أسرت أرمنوسة وأخذت هي وجميع مالها وسائر من كان معها ، وأحب عمرو أن يجامل المقوقس فأرسلها إليه
مكرمة وجميع مالها مع قيس بن أبي العاص السهمي
، فسر لذلك وحفظها للخلق العربي الكريم .... وفي رواية هذه القصة من الضعف
والتناقض ما يحمل أكثر المؤرخين على عدم
تصديقها ، لكنها مع هذا كان لها شأن في الأدب فترددت في القصص الشعبي ( أبي زيد والهلالية) وبني عليها أحد مشهورى الكتاب الافرنج
رواية تاريخية معروفة .
وبقيت مدينة بلبيس مدينة كبيرة، بل أكبر بلاد الشرقية (إذ كانت قاعدتها قبل
إنشاء الزقازيق ) حتى دمرت في أيام الحروب الصليبية ثم استعادت
بعض شأنها في الزمن الحديث.
وهي الآن قاعدة المركز الإدارى المعروف باسمها ، وهى تستوعب 9.8% تقريبا من
سكان مديرية الشرقية حسب تعداد سنة ۱۹۲۷ -
ومعظم أهلها من أصول عربية ، فقد استوطن بها عدة قبائل بعد الفتح العربي تلمح ذلك في
وجوههم وفى لهجتهم ولعلها من البلاد القليلة التي ينطق أهلها ، وخاصة المسنين
منهم، (بالقاف) إلى هذه الأيام ، وقد حكى
لى أحد الأطباء ممن قضوا وقتا كبيرا هنا . أنه قد سمع شكوى لامرأة عجوز هكذا :
) كان لي قرش عند عمك القشلان
، قمت رحت الصبح بدرى ، أقول له عليه، قام وقف ، ورقعنى قلم ، وقعني على الأرض) ضاغطة
على حرف القاف مبرزة إياه طبيعية بلا تعمل ولا تكلف ، وحين يستعرض المرء بعض أسماء
العائلات هنا ، يدرك أن هناك أصولا من اليمن ، كعائلة
( بزان) - وقد هاجر البعض منهم من بلبيس إلى فلسطين
وشرق الأردن والعريش في سبيل تجارة الخيل والجمال واستوطنوا هناك وإن لم ينقطع
نسبهم هنا ، ويقال
إن (البلبيسي باشا ) الذي تردد اسمه مراراً في عمان أثناء حرب فلسطين من
هؤلاء المهاجرين.
وهم أهل تجارة كما كانوا منذ
القدم، حين كانت بلبيس ممراً تجارياً للقوافل ، وفى هذا الوقت إذ يحيط زمانها
القليل من الأراضى الزراعية والتفاتيش الكبيرة وضيعات الأغنياء ، وكلها لاتسمح
بالتوسع في امتلاك الأراضي.
وهذه الضيعات معظمها على الضفة الشرقية لترعة الاسماعيلية غرست في الزمن
الحديث بساتين واسعة عظيمة يسرها الماء الذى لا ينقطع أبداً ،
أهمها بساتين بركات ، وسراج الدين ، وخليل عامر ، ولعل بساتين إنشاص الشهيرة ومزارعها هي جنة الشرقية بلا نزاع،
ويملكها حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول حفظه الله .
ومما يجدر بالذكر أن واضع البذرة الأولى في استغلال هذه الأرض كبساتين هم
جماعة من الألمان تغلبوا على ارتفاع مستوى الأرض بتركيب آلات لرفع
المياه ، فاستطاعوا أن ينشئوا هذه الجنان الفاخرة التي تمد البلاد تقريبا بأكبر إنتاج من الموالح والفواكه الأخرى .
وتشتهر بلبيس بتجارة الإبل الآتية من بلاد الشام ، وبيع الحاصلات الصحراوية جميعها (
البلح – الحناء - السمسم - الفول السوداني )
وتنبه أحدهم إلى استغلال الصحراء في عشبها ، واكتشف عشب ( السكران) الذى ينمو
بكثرة فيها ، وهو عشب طبي يدخل في صناعة بعض الأدوية ، ويصدر إلى معامل انجلترا
وأمريكا وقد زرعه في بعض أرضه فزكا فيها .
وقد نشأت في بلبيس صناعة عصر الزيت والسيرج من السمسم، ويشتهر بجودته ويصدر
إلى كثير من المدن المصرية ، وصناعة (الأكلمة) ونسج الأقشة الشعبية
بالأنوال اليدوية ، كما يوجد بها مصنع للمياه الغازية (الغازوزة ) ومصنع للبويات والصبغات يديره أخصائى إيطالى .
وقد أكسبتهم التجارة من الناحية المادية الشيء الكثير ، ولكنها تركت أثرها
في خلقهم ، فلقد يخضعون في كثير من أمرهم إلى المنطق التجارى الذى
ينطوى على النفعية والكسب يزنونه بهذا الميزان ، ويقيسون بهذا المقياس ، فاتسموا بالحرص الشديد على المال وبرعوا
في استغلاله براعة مشهودة لهم من القدم ، حتى الأجنبي لم يستطع أن يعيش بينهم ، أو يزاحمهم 0
وقد كانت مبانى بلبيس إلى سنة ۱۹۳۰ تقريبا تعلو على المستوى
الحالى بحوالي ثمانية أمتار ، قبل أن يشق في وسطها
شارع فؤاد الأول ، وهو أهم الشوارع التي جملتها حقا ، فكثرت فيه المساكن الصالحة ،
واحتوى على المحال التجارية المختلفة ، وبه
معظم أبنية المصالح الحكومية ، ويقال إن هذا المشروع وإن أفاد تنظيم المدينة إلا أنه جنى على ميزة ارتفاع المساكن ، وما كان
ينتج عنه من جو جاف رائق ، وبعد عن مباوات الذباب
والبعوض .
وتبعد محطة السكة الحديدية عن البلدة بحوالى كيلومترين ويصل منها إلى غرب
البلدة الخط الحديدي ) الضيق ( الذى يخترق مديريتي الشرقية والدقهلية ، ويسير فى هذا الشارع
الرئيسي المزدحم بالمارة ووسائل النقل فيصبح مصدر انزعاج
مستمر وخطر بين ، وحبذا لو اهتم بنزعه ونقله بقرب المحط الأميرى .
وقد نهضت البلدة من الناحية التعليمية نهضة رائعة ، ففيها الآن مدرستان
ابتدائيتان ، وملحق بإحداهما فصول ثانوية، ومدرسة بنات
ابتدائية، ومدرسة نموذجية للبنين وأخرى للبنات ، ومدرسة صناعات أولية وثلاث مدارس أولية للبنين، والضغط على هذه المدارس شديد جدا
للإقبال على التعليم - بعد أن أصبح بالمجان من
جهة ولأنه من جهة أخرى لا يوجد فيها مدارس أهلية تساعد على استيعاب الذين لا
يقبلون بالمدارس الأميرية.
وأبنية هذه المدارس كلها غير صالحة بالمرة، وأثرياء البلدة لا يتقدمون بتضحية
ما في هذا السبيل، ومرد ذلك في نظرى أن الأبنية لا تغل الفائدة
المرموقة ... وليس في الحساب جانب إنساني مفروض فيه بعض البذل وبعض الإيثار .
وبالبلدة حركة عمرانية تتسع بسرعة نظرا لكثرة المصالح الحكومية بها ولكثرة
في عدد الموظفين التي نتجت عن هذا ، وينشأ في غربي المصرف (
الرشاح ) حى جديد، سيزيد من أهميته، أن به عملية المياه والنور الجديدة التي ينتظر إتمامها بعد زمن قليل ، فتساعد على
نهضة البلدة العامة. وقد تم تشييد ناد جديد يبلبيس وهو مكان فسيح أنيق هو الموئل الوحيد للموظفين ومن شاء من الأعيان، وقد
أثار فيه رجال التعليم وغيرهم نهضة علمية
ورياضية تمثلت في برنامج كبير المحاضرات والمباريات الرياضية . ويمكن القول بأنه
المكان الذي
تتركز فيه حياة البلدة الاجتماعية.
وأهل بلبيس محافظون ، لم تستطع بهارج المدنية أن تخرجهم عن ذلك، فالغالبية
الكبرى من النساءمحجبات يلبسن ( البرقع ) الطويل ذا ( القصبة ) الكبيرة الحجم
المرصع ( بالغازى ) وهي قطع مستديرة من الذهب أو
تقليده ، ويتلفعن بالملس الحرير الأسود فوق رداء أسود أيضا يغطى ( الفستان )
الزاهي الملون.
وهن في منتهى الحشمة ، ويندر أن يقع النظر على امرأة سافرة، وإن حدث ذلك فلا
بد أن تكون من غير أهل البلدة.
وهم شديد و الاعتزاز بعصبيتهم،
والألفة سائدة بينهم ، ويبدو ذلك واضحا في مجاملة بعضهم بعضا في أحزانهم
وأفراحهم ، ويخيل إلى أن جل أهل بلبيس الأصليين على صلة نسب بعضهم بعض ، فهم
يؤثرون الزواج فيما بينهم .
وهم يؤدون الفرائض الدينية بانتظام فى المساجد الكثيرة ، ومما يلفت النظر
إقبالهم الشديد على تأدية فريضة الحج، وتكاد لا تلقى واحداً إلا قد
أداها مرة إن لم يكن أكثر .
والبلدة بعد ذلك تضم مقامات الأولياء الله الصالحين ومنهم شهداء المجاهدين
الأبرار ، ولعل هذه الروح الدينية المتأصلة هي فيض من بركتهم ونفحة
من خيرهم ينعم بهما هذا البلد الأمين .
من مصادر البحث - :
1.
الخطط التوفيقية لعلى باشا
مبارك
2.
فتح العرب لمصر (لبتلر(
3.
) كلمة عن بلبيس أذيعت ) لمحمد بك
بدران) مراقب الثقافة أطلعى عليها مشكورا .
4.
حياة الشرقية - ماضيها
وحاضرها بحث نشرته مدرسة الزقازيق الثانوية سنة ١٩٤٠.
عبد الفتاح حسن ابراهیم
ناظر المدرسة الابتدائية
الجديدة
المرجع
كتاب الشرقية وسيناء
بحث تنشره منطقة الزقازيق التعيمية (1368 هجرية -1949م) من صفحة 108الى 111