الأربعاء، 30 أبريل 2025

هيرودوت في زيارة تل بسطة بالزقازيق

 هيرودوت في زيارة تل بسطة بالزقازيق 




حوالي عام ٤٥٠ ق . م هبط مصر الرحالة الإغريقي هيرودوت دارسا أهم معالمها وكان دائما يسير هذه المعالم وقد أسهب في وصفها .

 

حقا إنه كان كثير الظن والتوهم ، وكان ظنه يخطىء ويصيب ، وإنه ليروى لنا على أية حال ما استمعه وأصغى إليه من قول الأدلاء في عهده، وقد أصاب الحقيقة في وصفه لكثير من المعالم التي رآها ، وكان منها معبد القطة " باست " في مدينة بوباستة ، وهى تل بسطة الحالى قرب الزقازيق .

 

وكانت القطة، تعبد في هذه المدينة باعتبارها إلهة حياة وحب وفرح وسرور، واعتقد القوم بأن فيها قوة سحرية خاصة ، كما زعموا أنها أكبر بنات ، آتوم ، إله الشمس ، وقد أطلق عليها هيرو دوت اسم أرتميس (ديانا) معبودة الإغريق التي اجتمعت لها خصائص القطة, باست ، وكانت تعد إلهة القمر وملكة الأدغال والجبال والطاهرة النقية ، المشغوفة بالصيد في أثناء الليل ، حتى إذا طلع النهار أرخت قوسها وانغمرت في عالم أخيها
"أبولون " إله الشمس

.
وقد حدثنا هيرودوت عن زيارته لتل بسطة واهتمام القوم فى مصر بعيد الآلهة في قوله ، يعد من أعظم الأعياد التي يهتم المصريون بإحيائها ويؤمها عدد كبير منهم أكثر من أى عبد آخر . ذلك العيد الذي يقــام في مدينة بوباستس تمجيداً لأرتميس.


وإنك لتشاهد فى هذا العهد الرجال والنساء يجيئون أرسالا  تترى ويقبلون إليه جماعات شتى من جهات متفرقة في القوارب والمراكب التي تتهادى بهم على مياه النهر وكل سفينة منها تحمل أفواجا كثيرة .

 

وترى بعض النساء في هذه السفن يضربن بالصنوج والدفوف ويعزف الرجال بالمزمار طوال وقت الرحلة ، أما بقية الجمع الحافل من النساء والرجال فإنهم كانوا يغنون ويصفقون بأكفهم، وكلما وصل سربهم إلى إحدى المدن الواقعة على جانبي النهر اتجهت السفينة بهم نحو الشاطى وتظل النساء يلعين ويغنين على حين تسمع من الرجال تصفيقا وقهقهة وهتافا ثم ينادى بعضهم نساء الحى ويوجه إليهن السباب ، وكان البعض يرقص ويعبث ، أما البعض الآخر فيقف ليبدى عن سوأته، ويظل القوم على هذه الحال مازحين عابثين مرحلة بعد مرحلة على طول مجرى النهر حتى يصلوا فى النهاية إلى مدينة « بو باستس " حيث يقيمون العيد
ويقدمون الضحايا .

وكان النبيذ الذي يرتوون منه هناك في أيام العيد يفوق ما كان يستهلك طوال أيام السنة .
ويقدر عدد رواد العيد من الرجال والنساء فيما عدا الأطفال بسبعمائة ألف نسمة.

 

أما معبد الآلة بوباستس ، فهو جدير بالوصف حقا ، وقد تكون المعابد الأخرى أكبر منه اتساعا ، وأعظم كلفة ، ولكن ليس بينها ما يساميه بهجة ورواء ، ومن يتأمله يسر قلبه وتقر عيناه بإشراق حسنه وبهائه وجمال روائه ، وإنه يترك فى النفس أثراً عظيما لتناسق أجزائه وإحكام وضعه .

 

وتحف به من الخارج قناتان تتصل كل منهما بالنيل وتضمانه بينهما فيصبح المعبد كأنه جزيرة ، وعرض كل قناة مائة قدم ، وهناك أشجار باسقة تظلهما وتضفى على هذه البقعة جمالا وروعة .

ويقع بين القنانين عمر ضيق يؤدى إلى المعبد الذى يصل مدخله الرئيسي إلى ارتفاع ستين قدما ويزدان بنقوش جميلة محفورة في الحجر.

وهذا المعبد يتوسط المدينة التي ترى مطلة عليه، لأن تقدم الزمن جعلها ترتفع شيئا فشيئا لإقامة المساكن الجديدة على أنقاض المباني القديمة، فهى لذلك فارعة والمعبد مفترع ، وإنك لتراه من كل جانب أينما توجهت في أرجاء المدينة

.
وقد غرست الأشجار حول السور الخارجى للمعبد وغدت تحف بالمحراب الذي تظله الرهبة والجلال لأنه يضم تمثال المعبودة بوباستس .

وكان الطريق المؤدى إلى المعبد يمتد مسافة ثلاثة فراسخ ويتصل في نهايته بسوق المدينة في اتجاه شرق ،وإنه ليبلغ أربعمائة قدم فى العرض ، وقد رصفت رقعته بالأحجار وغرست على جانيه أشجار مرتفعة تظلله وتكسبه, غضارة ونضارة.

ذلك ماجاء في وصف هيرودوت لمدينة تل بسطة ومعبدها القديم، وقد أثبتت الأيام صحة قوله فيما وصل إلينا من أعمال الحفر فى تلك الجهة.

وإن هذا الوصف ليدل على ما كان للمدينة من أهمية ويثبت قيام عبادة القطة فيها .


هذا إلى أن هيرودوت يحدثنا أيضا عن الأهمية التجارية التي كانت لتلك المدينة، فقد ذكر أن "الملك نيكاوه" الثاني ( ٦٠٩ - ٥٩٤ ق م ) جعل عندها بداية القناة الواصلة بين النيل والبحر الأحمر وحدثنا أيضا أن هذه القناة كانت تقطعها السفن الشراعية فى أربعة أيام، وكان يقوم بحفرها عدد كبير من العمال الذين فني منهم مائة وعشرون ألفا، وقد توقف" نيكاو " أخيراً عن إنجاز مشروعه الضخم عندما حذره المتنبئون من الكهنة بأن الدابرة سيجنون ثمار كده ونصبه ، وحدث بعد ذلك أن حققت النبوءة فأتم دارا ملك الفرس حفر القناة و ازدهرت التجارة من جراء ذلك بين الشرق وتل بسطة ([1]).

 

 



کنوز تل بسطة :

ولما كان العمال في عام ١٩٠٦م ينقلون الأتربة من هذا التل الذى يقى من أنقاض المدينة القديمة لاستعمالها في مد الخطوط الحديدية ظهر كنز هام من الحلى الذهبية التي يحتفظ بها المتحف المصرى الآن ( رقم ٤٢١٠ - ٤٢١٨ ) ومن بينها أساور جميلة من الذهب للملك رمسيس الثانى وكأس ذهبية بهيئة زهرة اللوتس وآنية من الذهب والفضة على جانب عظيم من الجمال والدقة، وكان كثير من هذه الحلى ما يستعمل في التجارة ، وإنها لتدل في مجموعها على تقدم الذوق والصناعة، وهى أجمل ما بقى لنا من ذكرى تل بسطة .


محمود درویشی
مفتش النقابة العامة

المصدر

من كتاب الشرقية وسيناء بحث تنشره منطقة الزقازيق التعيمية (1368 هجرية -1949م) ص من 168 الى 169

 



[1] (eorge Rawlinson, The History of Herodotus, Vol. 1

pp .

انظر143,185,196

 

نابليون والشرقية

 

نابليون والشرقية




 خضعت الشرقية كما خضعت مصر بأسرها لحكم فرنسا مدة قصيرة لاتزيد على ثلاث سنين وشهرين . وعلى الرغم من قصر هذه الفترة كانت ذات شأن عظيم في تاريخنا القومى ؛ لأن هذا الاحتلال تمثل فيه أول دور من أدوار حركتنا القومية وأشعل أول شرارة من المقاومة الوطنية ، وإن المتصفح لمؤلفات هذا الدورمن أدوار مصر ليجد أن الشرقية كانت من أولى المديريات التى جادت بكل تضحية واحتملت صنوف العنت وضروب الأذى لتتخلص من الاحتلال الأجنبي.

 

كما أن الشرقية كانت تضم إذ ذاك بين أحضانها زعماء القوم الذين فروا من العاصمة بعد هزيمة أنبابة، فلجأ إليها إبراهيم بك ومعه نحو ألف وخمسمائة من المماليك، وصحبهم والى مصر العثماني وهو بكر باشا ونقيب الأشراف، وزعيم الشعب السيد عمر مكرم ، وحمل أولئك الفارون ما أمكنهم حمله من أموال وتحف وذخائروعسكروا في مدينة بلبيس حاضرة الشرقية حينذ فتطلعت إليهم أنظار المصريين ، وأصبحت تلك المديرية مركز المقاومة ضد الفرنسيين لما فيها من قوة سليمة لم تصل إليها مدافع الفرنسيين حتى الآن . أضف إلى ذلك أن الشرقية كانت في ذلك الوقت صاحبة الزعامة الدينية لأن أحد أبنائها وهو الشيخ عبد الله الشرقاوى كان متولياً منصب مشيخة الأزهر فتقرب إليه الفرنسيون واستمالوه بشتى الطرق لاعتقادهم أن  كلمته هي العليا وأن لها قيمة فى تصريف الأمور ، فآلت إليه رئاسة الديوان الوطنى ، وكان يشارك نابليون في إدارة شئون البلاد المختلفة . والحق أن هذا الزعيم الشرقاوى كان قد اتبع سياسة الخضوع والخنوع بعكس سياسة الشرقاويين الذين رفعوا راية العصيان مع إبراهيم بك وبكر باشا فالتفوا حولهما وأخلصوا للسلطان أمير المؤمنين .

 

وكثيراً ماحمل أعراب الشرقية منشورات أولئك الزعماء التي كانت تفيض ثورة وتثير حماسة المسلمين ضد الغاصبين ، يدلنا على ذلك ما قاله الشيخ الجبرتى فى كتابه, عجائب الآثار ، في حوادث سنة ١٢١٣ هـ  سبتمبر سنة ۱۷۹۸م) . إنهم نبهوا على الأغراب من أعراب الشرقية وغيرهم والخدامين والبطالين ليسافروا إلى بلادهم ، ويقول فى موضع آخر من نفس حوادث السنة . إنهم قتلوا شخصين من الشرقية وطافوا برأسيهما ينادون ويقولون : هذا جزاء من يأتى بمكاتيب من عند المماليك أو يذهب إليهم بمكاتيب .

 

وعلى العموم فحركة العصيان ضد نابليون ولدت فى صحراء الشرقية ، ثم أخذت في النمو والتطور شأن الكائن الحى وتعاقبت عليها الأدوار المختلفة فحينا كانت تقوى ، وآونة تضعف، وطوراً تشتد وتنشط ، وتارة تخمد وتفتر ، على أنها طوال هذه السنين الثلاث كانت تسير قدما مجددة قواها منتفعة من التجارب طامحة في حركتها إلى المثل الأعلى .

 

وهذان الأعرابيان قد ضبط معهما منشور هام وردت فيه عبارات طعن قاسية على الفرنسيين فيها تسفيه الأحلامهم واستهزاء بمعتقداتهم ويقول : لاكرو » : «إن المطلع على هذا المنشور وما فيه من الاستهتار بمبادى" الثورة الفرنسية يرى من خلاله أنه كتب بقلم أوربى ، ولعله يشير بذلك إلى أنه كتب بإرشاد الإنجليزوبتعليماتهم ، والغريب أن هذا المنشور لم يذكره الشيخ الجبرتي لأن الفرنسيين صادروه وأحرقوه ، وقد وقفت على نص هذا المنشور باللغة الفرنسية فوجدته مستفتحا بالبسملة والصلاة على النبي محمد خاتم المرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين . ثم يقول : « إن الفرنسيين أباد الله ملكهم ونكس أعلامهم قوم كفار ملاعين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولا يعتقدون في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويسخرون البعث والنشور.

إلى أن يقول : فما أنتم  فاعلون ياحماة الإسلام وأنصار الأديان وينكرون الدين الحنيف ؟ يامن تؤمنون برسالة محمد بن عبد الله !! إن أولئك القوم الضالين قد ساء فألهم فظنوا المسلمين كأولئك الكفار المنافقين الذين صدقوهم واتبعوا مبادئهم الفاسدة وغاب عنهم أن الإسلام منقوش على صفحات قلوبنا وأنه يجرى مجرى الدم في عروقنا . فهل يمكن أن نترك ديننا الطاهر الحنيف بعد أن أثار الله قلوبنا بنوره وهدانا إلى الصراط المستقيم ؟ كلا ثم كلا ! إن الله لا يرضى لعباده المؤمنين أن يزعزع إيمانهم وقد قال سبحانه وتعالى : . إن ينصركم الله فلا غالب لكم ،، فكونوا ياعباد الله على حذر منهم ولا تقعوا في أشراكهم وحبائلهم ولا ترهبنكم كثرتهم ولا تدهشنكم هيئتهم ؛ فالأسد لا يرهب الثعالب مهما كثر عددها، والنسر لا يخاف البغاث مهما استنسر ، وستصلكم الجيوش الجرارة على الصافنات الجياد لتقضى على عدو الله وعدوكم وتقذف به إلى النار وبئس القرار . فلا تيأسوا من روح الله فإنه تعالى حارسكم ومؤيدكم، فبعونه تعالى وحول رسوله الكريم ستمحق جيوشنا أولئك الكفرة الضالين والساعة آتية لا ريب فيها .. نصر الله جيوش الموحدين وأعز سلطان المسلمين ، هذا مثل من أمثلة المنشورات التي كان يحملها أعراب الشرقية إلى القاهرة لتسليمها إلى العلماء أو مصطفى بك كتخدا والتي أدت في نهاية الأمر إلى قيام القاهريين بثورتهم الشهيرة التي اضطرمت نيرانها في ٢١ أكتوبر

و بعد موقعة أمبابة قدم نابليون إلى القاهرة فاستقامت له الأمور فيها وبدأ يفكر في تقبع المماليك في الشرقية وفى الصعيد، فاكتفى بأن أرسل «ديزيه خلف مراد بك ليقضى على أتباعه في الوجه القبلى، أما إبراهيم بك فإنه كان موضع تفكير نابليون ومصدر الانزعاج للحملة ، إذ كانت قوته سليمة كما كان على اتصال بسوريا والإنجليز فى البحر الأبيض ، ولكل ذلك وجه نابليون معظم قواته لسحق إبراهيم بك في شرق الدلتا حيث كان مرابطا فى بلبيس . أضف إلى ذلك وصول قوافل الحجاج من الحجاز مما أدى إلى تخويف نابليون من تفاقم الخطر لأنه علم بأن جعلهم رغبوا فى الانضمام إلى أميرهم إبراهيم بك ، كما خشى أنه ربما يتهم بعدم تأمينه

لطرق الحج ، فلم يجد نابليون بدأ من الخروج للقضاء على هذه البذرة قبل أن تنمو وتتفرع، كما أسرع إلى إعلان تأمين سبل الحج في خطاب تاريخي أورده لنا لاكرو ، بعث به إلى شريف مكة إذ ذاك وهاك نصه :

"في الوقت الذى أنبئك فيه بدخول الجيش الفرنسى إلى مصر . أرى من الواجب على أن أؤكد لك بأن نيتى ترمى إلى تأمين طريق الحج إلى مكة بكل الوسائل الممكنة . وستبقى المساجد والأملاك التي للحرمين الشريفين في مصر كما كانت فى الماضى لا ينازعها فيها منازع. إننا أصدقاء إلى نبي المسلمين وستعمل كل ما نستطيعه لإرضائكم وللتودد إلى الدين الإسلامي. أريد منك أن تعلن الناس في كل مكان بأن قوافل الحج لا تلقى فى طريقها مقاومة بل ستكون محمية بطريقة تجعلها في مأمن من اعتداء البدو عليها "

 

نابليون

 

ولكن بالرغم من هذا نجد أن أغلبية الحجاج بل أمير الحج نفسه ( صالح بك ) قد انضموا جميعا إلى جانب إبراهيم بك ولم يبق منهم إلا النزر اليسير في بلبيس قبض عليهم نابليون وأرسلهم محروسين ببعض الأول سنة ۱۲۱۳ هـ . ملك الفرنسيون بلبيس جنده إلى القاهرة. وفى ذلك يقول الجبرتى فى حوادث ربيع الأول من غير قتال ومن بقى فيها من الحجاج لم يشوشوا عليه فأرسلوهم إلى مصر ومعهم طائفة من العسكر .

 

وقبل أن يجرد نابليون جيشا للقضاء على إبراهيم بك تراه يوزع القوات العسكرية على بقية مديريات الوجه البحرى فكان حاكم الشرقية العسكري ضابطا اشتهر بين أقرانه بالشجاعة والقسوة الشديدة يدعى لكرك الذى تلقى بعد يومين من تعيينه الأوامر بالمسير صوب حاضرة المديرية وكانت إذ ذاك مدينة بلبيس .

 

بدأت طلائع الجيش الفرنسي تزحف يوم ٢ أغسطس سنة ۱۷۹۸ من القاهرة بقيادة الجنرال لكلرك فكانت أحياناً تجد المقاومة الشعبية وأحياناً لاتجدها ، ولكن على العموم كان سير الجيش محفوفا بصعوبات كبيرة بدليل وصول بعض قوات فرنسية للنجدة تحت قيادة الجنرال " دوجاى » و « رينيه ".. وأخيراً كتب الجنرال "لوجيه "إلى نابليون يقول :

"ثارت القرى في الشرقية ضد فرساننا الذين أرسلناهم إليها لأخذ الخيول منها وعاد الفرسان يخبروننا بهذه الثورات ، وكل الدلائل تدل على أنه لابد من قوة كبيرة لإخضاع هذه الجهات "

لم يجد نابليون بعد ذلك بدأ من الخروج بنفسه إلى الشرقية ( وهى المديرية الوحيدة التي سار إليها بنفسه ) لملاقاة إبراهيم بك ومماليكه ، فوصل بلبيس فى صبيحة يوم ٩ أغسطس سنة ۱۷۹٨ بعد أن أخلاها إبراهيم بك  فاعتزم نابليون أن يتعقبه قبل أن يغادر حدود مصر إلى الشام ولقى الفرنسيون في بلبيس من بقي من الحجاج كما ذكرت . والحقيقة أن نابليون لم يلبث فى بلبيس طويلا لرغبته في تعقب إبراهيم بك فأرسل قوة من فرسانه ليلة ١١ أغسطس وصلت إلى قرية القرين دون أن يلحق بقوة إبراهيم بك الذي غادرها إلى الصالحية فتقدم نابليون إلى هذه الجهة حيث اشتبك مع قوة المماليك فى معركة عرفت بمعركة الصالحية وقد حمى وطيس

القتال في هذه المعركة وكادت تدور الدائرة على الفرنسيين، كما كانت هذه أول معركة وقعت بين فرسان الجيش واقتتلوا بالسلاح الأبيض، فتحرج مركز الفرنسيين لبسالة المماليك ومهارتهم ولا نضمام بعض الأعراب إلى صفوفهم . ولم ينقذ نابليون من ورطته سوى الجنرال لكلرك الذى أجبر المماليك على الانسحاب باستعماله المدافع. ومما يدلنا على تفوق المماليك فى هذه المعركة جرح بعض خاصة رجال نابليون كالجنرال سلکوسکی وديترس ياور نابليون . والحقيقة أن الصالحية كانت المكان الذى وصلت فيه أسوأ الأنباء وأشأمها على نابليون

وضباطه فأكثروا من الندب والعويل ، يدلنا على ذلك قول مينو في مذكراته عن الصالحية وكانت البلد السيىء الذي فقدنا فيه كل آمالنا وأمانينا وضحينا فيه بمجهوداتنا جمعاء، إلى أن قال : يارب كيف تنتهي هذه الحملة فى مصر ؟ وكيف نؤمل المساعدة وقد حيل بيننا وبين بلادنا ؟ أنعيش فى مصر بقية حياتنا بعيدين عن أولادنا وآبائنا وأزواجنا وخليلاتنا ..؟ . . فقدنا كل هذا وأصبحنا في ديار مقفرة ، وبين قوم لا نأ لفهم ولا يألفوتنا .

 

وفي الصالحية أيضاً أصدر نابليون أمره بتعيين الجنرال دوجا قومندانا المديرية المنصورة والجنرال فيال على دمياط . وبعد أن وقف نابليون على هزيمة أبي قير البحرية عمل كل ما يمكن ليؤثر على والى الدولة العثمانية بالبقاء فى مصر كما كان في زمن المماليك . كما أراد أن يعقد أواصر المودة والصلح مع إبراهيم بك وذلك لدقة موقف الفرنسيين وضعف روحهم  المعنوية فاستأجر نابليون أعرابيا على هجين سريع وأعطاه خطابا ليلحق بإبراهيم بك وهو في طريقه إلى غزة على أمل أن يتفق . ومع والى الدولة وهذه هي ترجمة ذلك الخطاب :

(المعسكر العالم بالصالحية في ١٢ أغسطس سنة ١٧٩٨م

إلى إبراهيم بك :

لم يعد عندك شك في تفوق الجيوش التي أقودها . وهأنت ذا خارج أرض مصر وأمامك صحراء واسعة ، وإنك لتجد في واسع خلى كل ماتريده من نعمة وسعادة واطمئنان ، فهل لك أن تبلغنى في الحال رغباتك ؟

وإني أعلم أن باشا جلالة السلطان موجود معك فليكن هو واسطة ورسولا للمخابرة بينى وبينك )

بونابرت

وليس عندى أى برهان على وصول هذا الخطاب إلى يد إبراهيم بك ولكن مما لا نزاع فيه هو أن نابليون لم يتلق رداً ولا رسولا حتى ولم يعد إليه الأعرابي الذي بعث الخطاب معه . ولو جاز لنا أن نتخيل وصول ذلك الخطاب فعلا ، فهل كان من الممكن أن يؤدى إلى اتفاق إبراهيم بك مع نابليون كما اتفق مراد بك مع كليبر ؟ الجواب أن كل الدلائل تؤكد أن إبراهيم بك ما كان ليقبل مطلقا لأنه كان قد أعد من قبل عدته للسفر ولان جميع المماليك كانت لهم ثفة فى مقدرة الدولة على إخراج الفرنسيين من مصر ، كما أنه ما كان يعقل أن يكون والى الدولة العثمانية رسول الاتفاق بين إبراهيم بك ونابليون !!! .

 

بعد خروج إبراهيم بك ومن معه من أرض مصر وتوجههم إلى غزة لم يبق أمام نابليون إلا الإسراع في العودة إلى القاهرة ليزيل بوجوده الأثر السيء الذي أحدثته معركة أبي قير البحرية في نفوس المصريين وجنود الفرنسيين، كما أنه أدرك تمام الإدراك أهمية موقع الصالحية من الناحية العسكرية . فقبيل خروجه منها أصدر أمره للجنرال كافاريلى بإنشاء القلاع والطوابي والسكنات اللازمة . كما عين الجنرال رينييه قومندانا لحامية الصالحية ومديراً لمديرية الشرقية ... سار نابليون بخطى واسعة نحو القاهرة ليقضى على كل الآثار التي أحدثتها أخبار كارثة العمارة الفرنسية فوصلها في يوم ١٤ أغسطس وهناك خاطب ضباطه بشجاعة ثابتة قائلا هانحن مضطرون لأن تعمل العظائم وسنعملها ، وأن نؤسس فى هذه البلاد دولة كبيرة وسنؤسسها . إن البحار تفصل بيننا وبين الوطن ولا سلطان لنا على هذه البحار ولكن ليس ثمة فاصل يفصلنا عن آسيا وإفريقية : وعندنا من الرجال العدد الوافر ولا ينقصنا المدد لتقوية صفوفنا .

 

لم يبق فى الصالحية من قوات الفرنسيين سوى فرقة الجنرال رينيه وفرسان الجنرال لكلارك، ومنذ ذلك الحين اهتم نابليون بتحصين الصالحة لحراسة برزخ السويس ولمراقبة حدود مصر الشرقية ، ومعنى ذلك أن الشرقية اتخذت مركزاً من أهم المراكز الحربية، ولم يكتف الجزال رينيه بالتحصينات التي أقامها كافاريلي بل نراه يحول مسجد الصالحية إلى معسكر للفرق الفرنسية فأنشأ فيه الأفران والمخابز للجيش ، وأقام فيه المدافع . وهناك من المؤرخين من يقول بأن نابليون أقر هذا الاعتداء المثير الحفيظة الأهلين فطلب من جنراله أن يزيد في عدد الأفران التي بالمسجد وعدد المدافع التى نصبت عليه ، بل أكثر من ذلك أن أمره بأن يتخذ

في المسجد مخزنا للبارود ومستشفى للجنود ، ويجعل منارته كمرصد لاستطلاع الحركات المعادية .

 

أما عن روح الأهالى في الشرقية فإنها كانت تتدفق ثورة وتفيض كظما وغيطا وذلك لكثرة اعتداء الجنود وجرائمهم ، إذ كان الفرنسيو أما ينهبون القرى والماشية فيضطر القوم إلى الرحيل عن قراهم لتهريب مواشيهم في الصحراء، كما امتنع الأهلون عن بيع ما يحتاج إليه الفرنسيون وحملوا السلاح عند العدو وأخذوا يناوشون الحاميات الفرنسية ويقطعون طرق مواصلات الجيش مع القاهرة ، ولقد اشتدت تلك الحركات العدائية عند بذر بذور الثورة التى اشتعلت نيرانها فى القاهرة في اكتوبر تشجع الشرقاويون على هجوم المخافر الفرنسية مما أدى إلى قتل بعض كبار الفرنسيين، فمثلا قتل أهل بلبيس وكفور العايد ترجمان الجنرال رينيه الخاص على بعد أربعين متراً من معسكر الفرنسيين العام في المدينة ، كما قاوم أهل « بيشة"

الفرنسيين عند ما شرعوا فى مصادرة خيولهم وذلك بالبنادق والعصى ( الشماريخ ) فعادت الكتيبة أدراجها .

ولعل سبب تحمس الأهالى ضد الفرنسيين وشدة مقاومتهم يرجع إلى وصول الفيضان الذي عطل حركات الجند وانتقالها إلى القرى : كما أن الأمراض كانت قد بدأت تظهر مع شدة الحرارة وبخاصة الرمد الذي فتك بالفرنسيين وانتشر بينهم ، كما أن الثورة الشعبية التى استطار شرارها من القاهرة إلى الأقاليم زادت في حماسة الأهالى وشجعتهم على مهاجمة معسكرات العدو وبخاصة أهالى بلبيس ومعهم نحو مائة فارس من قبيلة العائد هجموا على كتيبة فرنسية في فجر ۲۲ أكتوبر وقتلوا معظم جنودها ولكن رد رينيه هجمة العرب بعد أن انسحب إلى بلبيس كما طلب المدد من القاهرة خوفا من حرج مركزه . و بعد قليل من الوقت وصل هذا المدد فهاجمه عرب المعازة وهددوه ووضعوه في أحرج المواقف لولا استعمال المدافع التي ردتهم حتى قرية غيتة (جنوب غربي بلبيس ).

وهكذا استمرت الحرب سجالا بين الشرقاويين و بين الفرنسيين بسبب عجز رينيه عن تجريد قوة كافية على الثوار تغزوهم فى بلادهم وقراهم فأصبحت مواصلات الجيش الفرنسي مهددة مما حمل نابليون على أن يرسل رسالة هامة إلى رينيه بتاريخ ٢٧ أكتوبر يأمره فيها بتوقيع العقوبات القاسية على القبائل التى تمردت أو شاركت فى الحركات الأخيرة ويأخذ منها الرهائن ويقتل مشايخ البلاد لأنهم المسئولون عما يحدث في بلادهم . فلما علم الأهالى بذلك أوغلوا في البلاد البعيدة وبعضهم أخلى القرى المجاورة وبهذا لم يستطع رينيه تجريد حملة لتعقبهم وآثر أن يعدل معهم إلى الملاطفة فلجأ إلى المفاوضة مع زعمائهم لإعادة السكينة ولكنه لم يوفق ولذلك استمرت الاضطرابات فى الشرقية حتى قبيل خروج نابليون إلى سوريا فتراه في شهر يناير سنة ١٧٩٩ يمر على الشرقية بعد عودته من رحلته إلى السويس ويقسو على أهلها ويذيقهم المذلة والمهانة، وفي ذلك يقول  الجبرتى، وفى ليلة الاثنين غاية شهر رجب حضر ساري عسكر بونابرت من ناحية بلبيس إلى مصر ليلا وأحضر معه عدة عربان وعبد الرحمن أباظة أخو سليمان أباظة شيخ العيايدة وخلافه رهائن وأخذوا مواشيهم وحضروا بهم القاهرة وخلفهم أصحابهم رجالا ونساء وصغاراً .

 

وما فعل ذلك نابليون بعرب الشرقية وأخذ زعماءهم رهائن إلا ليأ من جانبهم في حملته على الشام أو ليتق شرهم في حال هجوم الجنود التركية التي كانت في ذلك الوقت قد احتلت العريش وأخذت في الزحف على مصر.

وأول ما بدأ الشيخ الجبرتى ينوه بحملة الشام قوله فى حوادث يوم ۱۲ رجب ، وقد ذهب عدة من العسكر الفرنساوية إلى قطية وشرعوا في بناء أبنية هناك وأشيع سفر سارى عسكر إلى الشام والإغارة عليها .

وذكر في حوادث ۱۹ رجب أيضا أنه كثر الاهتمام والحركة لسفر الفرنسيس إلى جهة الشام وأخذوا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط ثم رسموا على الأهالى عدة كبيرة من الحمير والبغال فخاف الناس على حميرهم وامتنع خروج السقايين والبراسمية وحصل للناس ضيق بسبب ذلك . نقلت هذه العبارة من الجبرتي ليرى القراء أسلوب الفرنسيين في الاعتداء على المساكين وأخذهم دوا بهم التي يعيشون منها وكأنهم استحلوا كل ما في أيدى المصريين واعتبروه ملكا لهم بأخذونه أنى شاءوا وكيفما شاءوا وخصوصا الشرقية التي اعتبرها نابليون بمثابة مخزن للمؤن ومستودع للماشية يأخذ منها كل ما يحتاجه وما تلزمه الضرورة كما أنها تأثرت بانتشار الوباء الذى عم الحملة الفرنسية من الشام ومات كثير من أبنائها متأثرين بهذه الأوبئة الفتاكة .

 

الحسينى منى على

المصدر

من كتاب الشرقية وسيناء بحث تنشره منطقة الزقازيق التعيمية (1368 هجرية -1949م) ص من 183 الى 188

مركز منية القمح لمحة عن الحياة الاجتماعية فيها

 

مركز منية القمح لمحة عن الحياة الاجتماعية فيها


الشرقية هى المديرية التي تأثرت أكثر من غيرها بمختلف أنواع الفتح منذ القدم حتى وقتنا هذا ، وذلك لأنها كانت دائما طريقا للغزو... ولو أن الباحث دقق النظر في الظواهر الاجتماعية المتباينة وأرجعها إلى أصولها لوجد أن لمختلف الغزاة منذ الهكسوس أيام الفراعنة حتى الفتح الانجليزى في أخريات القرن التاسع عشر آثاراً وإن خفى طابعها المباشر وظاهرها المميز إلا أن نتائجها العميقة ذات أصول وعروق ممتدة في الأصلاب، ولو أن الزمن قد أعمل فيها بالتحوير والتشكيل.


فبينما تجد أن سكان الجزء الشرقي من الشرقية أعراب أقحاح فى كل طباعهم ، تجد أن للأتراك أثرا ظاهرا في الجزء المتوسط منها : كما أن جزءها الغربي - وسكانه فلاحون - فلا تزال بعض معالم الحياة العامة للفراعنة بادية فيه تعلم أن الأعراب من سكان مركز بلبيس وبعض بلاد مركز الزقازيق وأبى حماد يتميزون بكل صفات العرب من سكان أى جزء من بلاد الشرق العربي مع اعتبار تباين المدينة والمناخ وفعل الزمن - ففيهم لا يزال الكثير من المداحين ، الذين يجوبون البلاد على ظهور خيولهم يمدحون أثرياءها لا بالشعر كما كان الحال أيام الولاة وأمراء المؤمنين ، ولكن بالزجل والموالى وإن كان لا يزال للشعر المنظوم بقية فى نفوسهم.


و معلوم لسكان هذا الجزء من الشرقية أن ( المداح ) أو ( المواوى ) كما يسمونه قد لا يشترى بقرة بدل بقرته
التي نفقت أو ذبحت لكنه يشترى حصانا بدل الذى هرم أو مات ولو اضطر إلى الاستدانة والاقتراض لا لشيء إلا لأنه لا بد وأن يعتلى صهوة جواد وهو يمدح المثرين من أرباب البيوت على النمط العربي القديم،وآخرون لا يمكن أن يعيش الواحد منهم من غير سلاح وإن استطاع الحياة أياما من غير طعام معقول

 ..
ولذوى المال من سكان هذا القسم الأقصى من إقليم الشرقية قصص تروى في الكرم العربي والعنجهية العربية
بما فيها من فضائل كثيرة وإن كانت لا تخلو من الإسراف الذي يقلب طبيعة الأشياء أحيانا .
ومركز منية القمح هو آخر مراكز الشرقية إلى ناحية الجنوب الغربي ، ولذلك كان سكانه أكثر سكان مديرية الشرقية احتكاكا بالمدنية أو بالجديد الذى يتمركز عندنا في منطقة القاهرة ومدن الساحل الشمالي التي تتأثر قبل غيرها بكل وارد من أوربا.


ولقد ساعدت طبيعة الأرض نفسها على تمكين هذه الظواهر المتباينة في إقليم الشرقية وهو كما تعلم الإقليم الوحيد في مناطق القطر الذي يختلف شرقيه عن جنوبه وشماليه عن غربيه بينما يكاد سكان باقي الأقاليم في القطر يكونون وحدة منسقة إلى الحد الذي يجعلك تصدر حكما عاما على الإقليم كله بعد دراسة بلد واحد أو مدينة واحدة من مدن ذلك الإقليم.


لقد ساعدت طبيعة الأرض على تميز كل جزء من أجزاء الشرقية عن غيره، فبينما تجد أن الشرق من الشرقية رملى التربة يزرع زراعة الواحات ويصنع صناعة الصحارى مع وضع مسهولة المواصلات بينها وبين مختلف أجزاء القطر موضع الاعتبار ، فمن اهتمام بزرع النخيل وصناعة التمر إلى جانب الصناعات الصغيرة الأخرى التي تقوم على أشجار النخيل كصناعة، المقاطف والقفف وصنع الحبال من أليافها ، ومن زراعة السمسم والفول السودانى إلى تجارة الإبل والأغنام وما يتبعها من صناعة الألبان - وكان من الممكن أن تقوم هناك زراعات مثل التى تتميز بها باقي مدن القطر إلا أن الناس قد انحرفوا وطبعوا من حيث لا يعلمون واستمروا الحياة التي تلائم جوهم وطبيعة أرضهم ، ولكنهم استعاضوها بخير منها - فهم يتاجرون أكثر ما يزرعون ولهم في الاستبدال ظاهرة لا تلحظها فى باقى أقاليم القطر، فهم يبيعونك سلعهم من سمسم وحبال ومقاطف بما يعادلها ذرة وقحا وفولا ويفضلونها على النقد في أداء الثمن. وتعتبر تجارة الخيول والتمر من أوليات نشاطهم . بينما نرى كل هذا في الأجزاء الشرقية من الإقليم ترى أن الأجزاء الغربية ويمثلها مركز منية القمح قد قامت فيها الزراعة الحديثة التي تعتمد على شئون الري والصرف وقد شجع الناس الحكومة على شق الترع وحفر المصارف فقامت الزراعة عندهم على أحدث الأسس ولا تزال تتقدم يوما بعد يوم حتى لاحظنا أن زراعة الأرز قد كثرت فى السنين الأخيرة فى حين كانت زراعته وقفا على شمال الدلنا حيث يسهل أمرالري والصرف هناك - ولقد كثرت تبعا لذلك المصانع التي تضرب الأرز وتبيضه كما كثرت قبلها مصانع حليج القطن وفرزه وكبسه للتصدير ، حتى لقد كان الزقازيق شأن أى شأن قبل أربعين سنة إذ سمعنا أن بعض أهل القاهرة من هواة السهر والسمر كانوا يحضرون إلى الزقازيق لقضاء يوم أو بعض يوم لأن البلد كانت تعج
بالملاهي والمساهر التي امتازت بالرقص والموسيقى والغناء نتيجة لنشاط تجارة القطن وما يتبعها من كثرة النقد المتداول في أيدى التجار منهم حيث كان فيها من تجار القطن الكبار ما يفوق غيرها من البلاد - عدا الاسكندرية - حتى إننا أبناء هذا الجيل نذكر أن مدينة الزقازيق كانت من البلاد المشتهرة بصناعة الحصير وحلج الأقطان واستخراج الزيوت وعمل الكسب كما علمونا فى دروس الجغرافيا في تلك السنين .


كل ذلك وما شابهه جعل من سكان المنطقة الوسطى فى الشرقية زراعيين تجاريين يكادون يتجرون في كل ما يصل إليهم من غلات ومنتجات - فهم يتاجرون فى الماشية والأغنام ومختلف أنواع الحيوان، كما يتاجرون في القطن والأرز والفول السودانى ، وما جرى على شاكلتها إلى الحد الذى جعل من المصارف الوطنية والأجنبية تفتتح لنفسها فروعا في منطقتى الزقازيق ومنية القمح - ويتاجرون أيضا في المنسوجات البدائية التي تقوم على الأنوال في الأغلب ... وهم زراعيون يكادون لا يتركون صنفا أونوعا إلامارسوه فزرعوا الأرز كما قلنا وهو من غير أنواع النبات التي تجدد فى أرضهم وزرعوا قصب السكر للاستهلاك المحلى تقريبا وليس للصناعة التي احتكرتها شركة نجع حمادى : هذا إلى أن صناعة الفخار انتشرت في بلاد هذه المنطقة انتشارا يلفت النظر - وإنه لمن المشاهد اللطيفة المسلية أن تقف يوما على ضفة النهر المسمى «بحر مويس، لترى السفن - وقد حملت خليطا من الأشياء - تروح وتغدو عبر إقليم الشرقية من شرقيه إلى غريبه وبالعكس.

وحياة الناس الاجتماعية هي نتاج هذا التباين والتنوع حتى إن سمرهم نفسه قد جمع بين أمور الدنيا والدين فلا تكاد تجد واحداً من الشرقية لا يعرف ، الشيخ أبا مسلم ، في " بخطيط " أو . الشيخ جودة  في منية القمح أوالشيخ أبا خليل ، في الزقازيق، ولكل من هؤلاء الصالحين مولد يقام في كل سنة يكاد يجتمع فيه جزء ظاهر أو نسبة ملحوظة من سكان الإقليم كله ، ولو أنك  خبرت هذه الموالد بعين الباحث لو عيت المجتمع الشرقاوى ، ففي كل من هذه الموالد نشاهد قاسما مشتركا هو سباق الخيل وهو ظاهرة عربيةو تشاهد التحطيب وهو رياضة مصرية فرعونية ، وتستمتع بالرقص البلدى وملاعب ترويض الوحوش ، ولا يكاد يخلو واحد منها من "الحواة " أو  "السحرة " الذين يعتمدون على "خفة اليد" وهي حرفة تستهوى اكثر ما تستهوى الفلاحسين الذين يرجعون مايرون إلى قوى خارقة علوية أو أرض وهم إذ يعتقدون ذلك إنما
لأنهم حسنو النية سليموالطوية إلى حد استبعاد طبيعة الشر والإتيان بالمستحيل على البشر ومن هنا شاعت الفكاهة بأن أهل الشرقية ، عبط ، ذلك لأنهم كا أسلفنا يرجعون كل ما هو غير عادى إلى قوة قادرة مستمدة من روح قادرة أو عقل غير محدود حتى إنهم يخافون الدراويش ويتبركون ببعض البلهاء اعتقادا فيهم بأنهم أبعد الناس عن النفس والشر وبأنهم أقرب من غيرهم إلى رضا الله ، ويخشى الكثير منهم الحيوان الوديع الأليف كالقطط فلا يؤذونها بالليل توهما منهم أن الأرواح الطيبة تتناسخ وأن لها قدرة على التشكل والتلون
وليس أقرب إلى طبيعتها من الحيوان الصغير الأليف الوديع.

ولهذه الأشياء وغيرها أستطيع أن أقول إن سكان مديرية الشرقية وعلى الأخص سكان منطقة منيا القمح من أشد الناس تمسكا بأمور دينهم والمحافظة على شعائره عن إيمان راسخ وعقيدة ثابتة حتى إن العاقين منهم مستترون على الأغلب فلا تكاد ترى فى بلاد الشرقية كلها من يشرب الخمر علانية أو يقامر على مرأى من الناس إذا ما قسنا ذلك بلاد الصعيد المعروفة بالحرص والمحافظة حيث ينظرون هناك إلى هذه المسائل وأشباهها نظرتهم إلى مسائل خاصة بمن يأتيها ولا يضرهم ذلك مالم يسبب ضررا أو مساسا بالعرض أو أذى للآخرين .. أقول على العكس من ذلك نرى أن أهل الشرقية ينظرون إلى السكران أو المقامر نظرتهم إلى
مصاب بالطاعون أو كافر زنديق لا يجوز التعامل معه أو التقرب إليه أو أخذ كلامه كما ينبغي أن يؤخذ كلام غيره من الناس ، وفى رأيهم أن ذلك الضرب من الناس خارجون على الدين أو مارقون .. ولقد بلغ الأمر بعضهم أنهم يخافون الدنس أن ينطقوا بكلمة والخمر، فيطلقوا عليها اسم" المية الحمرا " فلا تكتب لهم سيئة إذا ما جرى ذكر المنكر على لسانهم .


وإنك لتجد في الكثير من قرى الشرقية أن أهلها كثيرا ما يحتفلون بليلة الجمعة المباركة ، باقامة الأذكارعلى شكل متسع - ومن ذلك ما يؤيد القول الشائع بأن الجنود المصريين بقيادة عرابى باشا وهو في «هرية مركز الزقازيق كان يفرض عليهم أن يقيموا الأذكار للحمد والتسبيح وأن أهل الشرقية كانوا ممن أبلوا بلاء حسنا في قتال الإنجليز" الذين كفروا " رغم حادث الخيانة الفردى الذى اقترفه بعض الأعراب الرحل في الجزء الشرق من الشرقية

.
ولطبيعة أهل مديرية الشرقية السمحة الهادثة وجد الكثير من الهاربين من وجه العدالة مرتعا كريما بينهم.

ولقد اختلط  كثير من أهل الصعيد وتزاوجوا وأنسلوا وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت مديرية الشرقية من المديريات التى تمتاز بكثرة النازحين إليها لسببين :

(1)     انساع رقعتها إلى الحد الذى يمكن أن تستوعب عددا كبيرا من الغرباء
(2) كرم الضيافة التى اشتهر بها أكثر سكان المديرية ورحابة صدورهم وتأصل روح العشرة

(2)            
في نفوسهم

(3)              

.
وأكاد أعتقد أن النازحين إليها من أهل مصر العليا هم الذين نقلوا إليها عادة شرب الشاي الأسود "الزردة " فأضافوا بذلك مخدرا جديدا لا يعاقب عليه القانون إلى الحشيش والأفيون اللذين فتحا سوقا مريحة للأعراب الرحل الذين اتخذوا تجارة الإبل صناعة يروجونها بين فلسطين ومصر ويخفون تحتها التجارة الأثمة الأخرى - تجارة الحشيش والأفيون .


ولذلك بينما نجد أن بعض سكان باقى المديريات وعلى الأخص الصعيد، خمارون ، نرى أن بعض سكان القسم الشرقى من الدلنا وعلى الأخص بعض أهل الشرقية من مدمنى الحشيش والأفيون : والفرق بين طبيعة الفريقين من أهل الصعيد وأهل الشرقية هو كالفرق بين أثر الخمر على العقل والمجموعة العصبية وأثر الحشيش عليهما ، فالخمار ثائر أبدا مندفع لأتفه الأسباب غير مبال بالعواقب أو النتائج لأن الخمر تصور له الكثير من الأمور صغيرا والعظيم من الناس حقيرا، بينما نجد الحشاش ، متوا كلا متسامحا لا يتحرك إلا بعد لأى وإعمال فكر وروية فلا يقدم على أمر إلا بعد أن يستطلع النجم ويقرأ الكف ويستخير الأولياء . فإذا ما اقتنع بدأ وإذا بدأ فهو عنيد لا يرجع عن الوصول إلى غايته أو يموت دونها ، ويؤيد ذلك ما تلاحظه في جرائم القتل . ففي الصعيد يسلم القاتل نفسه على الأغلب أو تقبض عليه الشرطة لأنه لا يقترف الجرم على الأعم الاجهاراً أو نهاراً لأنه لا يفكر كثيراً قبل البدء فى الإقدام على خير أو شي ، بينما ترى هؤلاء في بلاد الشرقية دهاة وذوى مكر شديد حتى أن جرائم القتل عندهم تقيد عادة ضد مجهول . أما الحالات التي يعرف منها القائل أو المجرم فهى استثناء لا يؤخذ به ولا يقاس عليه، لأن الفاعل الممسوك باليد هو واحد من اثنين : إما متهور متسرع لا يبالي بالعواقب وذلك لا يتأتى إلا فى الحالات التي يفقد العقل فيها سيطرته على الأعصاب ونادراً ما يكون ذلك فى غير حالات العرض وما يتعلق به ، وإما أن يكون غبيا ضيق التفكير يترك وراءه في كل خطوة دليلا يتم عليه أو شاهدا يرشد إليه وذلك ليس من طبيعة أهل الشرقية.

ويحضرني في هذه المناسبة قصة طريقة رواها لي أحد الأصدقاء من وكلاء النائب العام اشتغل زمنا في إقليم الشرقية. وتتلخص القصة في أن النائب أخطر للقيام للتحقيق في جريمة قتل انهم فيها أهل القتيل شخصا معينا بالقتل ، وقد قامت الشرطة بتفتيش منزل المتهم ولكنهم لم يعثروا على شيء يفيد التحقيق وقد حاور المتهم وكيل النيابة وداوره حتى لم يفز منه بطائل يلقى ضوءا على ما غمض من القضية وذلك كله رغم اعتقاد وكيل النيابة وإيمانه بأن ذلك المتهم هو القاتل لا ريب ولم يجد المحقق بدا من أن يقوم ويفتش منزله بنفسه وهناك في الدار لاحظ أن زوج المتهم كانت تحاول إبعاده عن مكان معين ولكنها كانت بعملها هذا أقرب ما تكون إلى من يلفت النظر إلى ذلك المكان بدلا من أن تبعده عنه وهناك عثر المحقق في الفرن على ثوب من ثياب المتهم قد غسل حديثا ولف على سكين ملوث بالدم ففرح المحقق بذلك الدليل فرحا شديدا واستجوب المتهم الذي أوحى إلى المحقق عن طريقة إنكاره ملكية الثوب والسكين بأنه هو الفاعل من غير شك ، واكتفى المحقق بذلك وزج بالمتهم في السجن حتى تصل نتيجة التحليل من الطب الشرعى لبقع الدم التي وجدت على الثوب والسكين ، وكم كانت دهشة المحقق حينما وصلت النتيجة بعد أكثر من أسبوع تقول إن الدم دم دجاجة مذبوحة وبذلك استطاع المتهم بالتعاون مع زوجه أن يبعد أنظار المحققين عن مكان معين قد خبأ فيه دليل ارتكابه الجريمة بأن الهاهم بتلك الخدعة التي تدل على المكر الشديد حتى يبعدوا عنه فرحين بما عثروا عليه ليستطيع هو أو زوجه - إن سجن هو - إخفاء معالم الجريمة كلها فلا يتبقى أساس واحد يمكن أن يقام عليه الاتهام بعد مضى أكثر من أسبوع و لقد كان ذلك ما حدث بالضبط إذ ما كادت نتيجة التحليل تصل على هذا الشكل إلى المحقق حتى أفرج عن المتهم فوراً حيث لا وجه لإقامة الدعوى.


ولقد أوردت هذه القصة لأدلل أن أهل الشرقية ليسوا كما وصفهم غيرهم، بالعبط ، ولكنهم كما قلت قبل هذا قوم لا يستطيعون تحميل الحال أكثر مما تحتمل فإن رأوا أمراً يعرفون أنه فوق طاقة البشر أرجعوه في الحال إلى القوى الخارقة سواء كانت خيرة ممثلة فى الله أو شريرة ممثلة فى الشيطان ، وهم قوم يمتزج دمهم امتزاجا شديداً بالدم العربي كرماء إلى حد كبير حتى إنه يقال إنهم دعوا القطار يوما إلى وليمة وضعوا فيها الأوانى على السكة الحديدية فكان طبيعيا أن يحطمها القطار فتشاوروا فى الأمر ظانين أن القطار غاضب منهم حتى أخرجهم واحد منهم من حيرتهم بأن القطار لا يأكل وإنما يدخن فأحضروا له التبغ بكميات وفيرة وانتظروا على المحطة وقدموا هداياهم إلى السائق بطبيعة الحال، وكان السائق ذكيا ماكراً أراد أن يفوز بتلك الكميات الوفيرة . فرمى أمام أعينهم بسلة من تلك السلال التي ملئت تبغاً إلى موقد القطار ثم ضغط على مفتاح خاص لإخراج البخار يخرج البخار كثيفاً حتى قال واحد من الداعين . ياه .. ! داتكته تمن " وذلك بمعنى « يا الله ...إن نفاثة القطار تستنفد ثمن أقة من التبغ، والثمن كمية كبيرة قد تملأ سلة صغيرة فعلا.

 .
ولذلك كان بعض هؤلاء الذين يقيمون الولائم لكل ضيف أو غريب ويصدقون كل ما يقال لهم
مستبعدين الكذب على الناس مثار فكاهات لطيفة تروى فى شيء كثير من المبالغة يثير ضيق أهل الشرقية ولا شك.


ولكن يجدر بنا في هذا البحث القصير أن نشير إلى أن منطقة منية القمح أصبحت على اتصال دائم مباشر بالعاصمة وسكانها - فالقطار السريع يقطع المسافة الآن فى ساعة واحدة أو أقل.

وكثيراً مانرى بعضهم يذهب إلى القاهرة ظهراً ليحضر حفلا افتتاحيا لشريط جديد فى إحدى دور الخيالة في القاهرة ويعود في نفس اليوم ليقضى الليل في بيته - وكثير جداً من موظفي الحكومة فى منطقة منية القمح يسكنون القاهرة ويحضرون صباحا في الموعد المحدد ويتناولون طعام الغداء في بيوتهم في مصر ..


ومنية القمح بلد هادى لا بأس به على الإطلاق يشقه نهر صغير هو بحر مويس ، وعلى الضفة منه يقوم ناد فخم مؤسس تجاوره بعض البيوت الحديثة - والنادى لموظفى الحكومة والأعيان والبيوت للمتيسرين من الناس. وبالبلد متنزهات للأطفال والسيدات وأخرى للرجال، والمدينة مزودة بالضوء الكهربائي والماء المقطر يصل إلى معظم الدور فيها ... ومنية القمح وإن كان يغلب عليها الطابع الريفي إلا أنها آخذة بأسباب التقدم وبكل ماهو جديد مع الاحتشام التام والترفق في الخطو السريع.

وليس الطابع الريقى الذى يغلب على هذه المنبة إلا أثرا من آثار اكتظاظ المنطقة بالسكان اكتظاظا نسيا جعل بلاد المركز متقاربة ، متصلة بخطوط منتظمة من السيارات العامة وقطر الدلتا فضلا عن الخط الرئيسي الذي يتبع مصلحة السكك الحديدية .
وبلاد المركز أكثر من تسعين ناحية يقوم على شئون الأمن فيها - بجانب عمدها - قرابة خمس نقط للشرطة .

 وأهل المنطقة كلها أبعد الناس عن الشر حتى ليتفكه رجال النيابة العامة أحيانا إذا نقل أحدهم إلى مركز منية القمح فيقولون : فلان قد نقل إلى مركز منية القمح في إجازة !.


عبد الخالق العلمي
المدرس بمدرسة الألفى الثانوية


المصدر

من كتاب الشرقية وسيناء بحث تنشره منطقة الزقازيق التعيمية (1368 هجرية -1949م) ص من 128 الى 133