نابليون
والشرقية
خضعت الشرقية كما خضعت مصر بأسرها لحكم فرنسا مدة قصيرة لاتزيد على
ثلاث سنين وشهرين . وعلى الرغم من قصر هذه الفترة كانت ذات شأن عظيم في تاريخنا
القومى ؛ لأن هذا الاحتلال تمثل فيه أول دور من أدوار حركتنا القومية وأشعل أول
شرارة من المقاومة الوطنية ، وإن المتصفح لمؤلفات هذا الدورمن أدوار مصر ليجد أن
الشرقية كانت من أولى المديريات التى جادت بكل تضحية واحتملت صنوف العنت وضروب
الأذى لتتخلص من الاحتلال الأجنبي.
كما أن الشرقية كانت تضم إذ ذاك بين أحضانها زعماء القوم الذين فروا
من العاصمة بعد هزيمة أنبابة، فلجأ إليها إبراهيم
بك ومعه نحو ألف وخمسمائة من المماليك، وصحبهم والى مصر العثماني وهو بكر باشا
ونقيب الأشراف، وزعيم الشعب السيد عمر مكرم ، وحمل أولئك الفارون ما أمكنهم حمله
من أموال وتحف وذخائروعسكروا في مدينة بلبيس حاضرة الشرقية حينذ فتطلعت إليهم
أنظار المصريين ، وأصبحت تلك المديرية مركز المقاومة ضد الفرنسيين لما فيها من قوة
سليمة لم تصل إليها مدافع الفرنسيين حتى الآن . أضف إلى ذلك أن الشرقية كانت في
ذلك الوقت صاحبة الزعامة الدينية لأن أحد أبنائها وهو الشيخ عبد الله الشرقاوى كان
متولياً منصب مشيخة الأزهر فتقرب إليه الفرنسيون واستمالوه بشتى الطرق لاعتقادهم
أن كلمته هي العليا وأن لها قيمة فى تصريف
الأمور ، فآلت إليه رئاسة الديوان الوطنى ، وكان يشارك نابليون في إدارة شئون البلاد
المختلفة . والحق أن هذا الزعيم الشرقاوى كان قد اتبع سياسة الخضوع والخنوع بعكس
سياسة الشرقاويين الذين رفعوا راية العصيان مع إبراهيم بك وبكر باشا فالتفوا
حولهما وأخلصوا للسلطان أمير المؤمنين .
وكثيراً ماحمل أعراب الشرقية منشورات أولئك الزعماء التي كانت تفيض
ثورة وتثير حماسة المسلمين ضد الغاصبين ، يدلنا على ذلك ما قاله الشيخ الجبرتى فى
كتابه, عجائب الآثار ، في حوادث سنة ١٢١٣ هـ
سبتمبر سنة ۱۷۹۸م) . إنهم نبهوا على الأغراب من أعراب
الشرقية وغيرهم والخدامين والبطالين ليسافروا إلى بلادهم ، ويقول فى موضع آخر من
نفس حوادث السنة . إنهم قتلوا شخصين من الشرقية وطافوا برأسيهما ينادون ويقولون :
هذا جزاء من يأتى بمكاتيب من عند المماليك أو يذهب إليهم بمكاتيب .
وعلى العموم فحركة العصيان ضد نابليون ولدت فى صحراء الشرقية ، ثم
أخذت في النمو والتطور شأن الكائن الحى وتعاقبت عليها الأدوار المختلفة فحينا كانت
تقوى ، وآونة تضعف، وطوراً تشتد وتنشط ، وتارة تخمد وتفتر ، على أنها طوال هذه
السنين الثلاث كانت تسير قدما مجددة قواها منتفعة من التجارب طامحة في حركتها إلى
المثل الأعلى .
وهذان الأعرابيان قد ضبط معهما منشور هام وردت فيه عبارات طعن قاسية
على الفرنسيين فيها تسفيه الأحلامهم واستهزاء بمعتقداتهم ويقول : لاكرو » : «إن
المطلع على هذا المنشور وما فيه من الاستهتار بمبادى" الثورة الفرنسية يرى من
خلاله أنه كتب بقلم أوربى ، ولعله يشير بذلك إلى أنه كتب بإرشاد
الإنجليزوبتعليماتهم ، والغريب أن هذا المنشور لم يذكره الشيخ الجبرتي لأن الفرنسيين
صادروه وأحرقوه ، وقد وقفت على نص هذا المنشور باللغة الفرنسية فوجدته مستفتحا
بالبسملة والصلاة على النبي محمد خاتم المرسلين وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى
يوم الدين . ثم يقول : « إن الفرنسيين أباد الله ملكهم ونكس أعلامهم قوم كفار
ملاعين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ، ولا يعتقدون في رسالة محمد صلى الله عليه
وسلم ويسخرون البعث والنشور.
إلى أن يقول : فما
أنتم فاعلون ياحماة الإسلام وأنصار الأديان
وينكرون الدين الحنيف ؟ يامن تؤمنون برسالة محمد بن عبد الله !! إن أولئك
القوم الضالين قد ساء فألهم فظنوا المسلمين كأولئك الكفار المنافقين الذين صدقوهم
واتبعوا مبادئهم الفاسدة وغاب عنهم أن الإسلام منقوش على صفحات قلوبنا وأنه يجرى
مجرى الدم في عروقنا . فهل يمكن أن نترك ديننا الطاهر الحنيف بعد أن أثار الله قلوبنا
بنوره وهدانا إلى الصراط المستقيم ؟ كلا ثم كلا ! إن الله لا يرضى لعباده المؤمنين
أن يزعزع إيمانهم وقد قال سبحانه وتعالى : . إن ينصركم الله فلا غالب لكم ،،
فكونوا ياعباد الله على حذر منهم ولا تقعوا في أشراكهم وحبائلهم ولا ترهبنكم
كثرتهم ولا تدهشنكم هيئتهم ؛ فالأسد لا يرهب الثعالب مهما كثر عددها، والنسر لا
يخاف البغاث مهما استنسر ، وستصلكم الجيوش الجرارة
على الصافنات الجياد لتقضى على عدو الله وعدوكم وتقذف به إلى النار وبئس القرار .
فلا تيأسوا من روح الله فإنه تعالى حارسكم ومؤيدكم، فبعونه تعالى وحول رسوله
الكريم ستمحق جيوشنا أولئك الكفرة الضالين والساعة آتية لا ريب فيها .. نصر الله جيوش
الموحدين وأعز سلطان المسلمين ، هذا مثل من أمثلة المنشورات التي كان يحملها أعراب
الشرقية إلى القاهرة لتسليمها إلى العلماء أو مصطفى بك كتخدا والتي أدت في نهاية
الأمر إلى قيام القاهريين بثورتهم الشهيرة التي اضطرمت نيرانها في ٢١ أكتوبر
و بعد موقعة أمبابة قدم نابليون إلى القاهرة فاستقامت له الأمور فيها
وبدأ يفكر في تقبع المماليك في الشرقية وفى الصعيد، فاكتفى بأن أرسل «ديزيه خلف
مراد بك ليقضى على أتباعه في الوجه القبلى، أما إبراهيم بك فإنه كان موضع تفكير
نابليون ومصدر الانزعاج للحملة ، إذ كانت قوته سليمة كما كان على اتصال بسوريا والإنجليز
فى البحر الأبيض ، ولكل ذلك وجه نابليون معظم قواته لسحق إبراهيم بك في شرق الدلتا
حيث كان مرابطا فى بلبيس . أضف إلى ذلك وصول قوافل الحجاج من الحجاز مما أدى إلى
تخويف نابليون من تفاقم الخطر لأنه علم بأن جعلهم رغبوا فى الانضمام إلى أميرهم
إبراهيم بك ، كما خشى أنه ربما يتهم بعدم تأمينه
لطرق الحج ، فلم يجد نابليون بدأ من الخروج للقضاء على هذه البذرة قبل
أن تنمو وتتفرع، كما أسرع إلى إعلان تأمين سبل الحج في خطاب تاريخي أورده لنا
لاكرو ، بعث به إلى شريف مكة إذ ذاك وهاك نصه :
"في الوقت الذى أنبئك فيه بدخول الجيش الفرنسى إلى مصر . أرى من
الواجب على أن أؤكد لك بأن نيتى ترمى إلى تأمين طريق الحج إلى مكة بكل الوسائل
الممكنة . وستبقى المساجد والأملاك التي للحرمين الشريفين في مصر كما كانت فى
الماضى لا ينازعها فيها منازع. إننا أصدقاء إلى نبي المسلمين وستعمل كل ما نستطيعه
لإرضائكم وللتودد إلى الدين الإسلامي. أريد منك أن تعلن الناس في كل مكان بأن
قوافل الحج لا تلقى فى طريقها مقاومة بل ستكون محمية بطريقة تجعلها في مأمن من
اعتداء البدو عليها "
نابليون
ولكن بالرغم من هذا نجد أن أغلبية الحجاج بل أمير الحج نفسه ( صالح بك
) قد انضموا جميعا إلى جانب إبراهيم بك ولم يبق منهم إلا النزر اليسير في بلبيس
قبض عليهم نابليون وأرسلهم محروسين ببعض الأول سنة ۱۲۱۳ هـ . ملك
الفرنسيون بلبيس جنده إلى القاهرة. وفى ذلك يقول الجبرتى فى حوادث ربيع الأول من
غير قتال ومن بقى فيها من الحجاج لم يشوشوا عليه فأرسلوهم إلى مصر ومعهم طائفة من
العسكر .
وقبل أن يجرد نابليون جيشا للقضاء على إبراهيم بك تراه يوزع القوات
العسكرية على بقية مديريات الوجه البحرى فكان حاكم الشرقية العسكري ضابطا اشتهر
بين أقرانه بالشجاعة والقسوة الشديدة يدعى لكرك الذى تلقى بعد يومين من تعيينه
الأوامر بالمسير صوب حاضرة المديرية وكانت إذ ذاك مدينة بلبيس .
بدأت طلائع الجيش الفرنسي تزحف يوم ٢ أغسطس سنة ۱۷۹۸ من
القاهرة بقيادة الجنرال لكلرك فكانت أحياناً تجد المقاومة الشعبية وأحياناً
لاتجدها ، ولكن على العموم كان سير الجيش محفوفا بصعوبات كبيرة بدليل وصول بعض
قوات فرنسية للنجدة تحت قيادة الجنرال " دوجاى » و « رينيه ".. وأخيراً
كتب الجنرال "لوجيه "إلى نابليون يقول :
"ثارت القرى في الشرقية ضد فرساننا الذين أرسلناهم إليها لأخذ
الخيول منها وعاد الفرسان يخبروننا بهذه الثورات ، وكل الدلائل تدل على أنه لابد
من قوة كبيرة لإخضاع هذه الجهات "
لم يجد نابليون بعد ذلك بدأ من الخروج بنفسه إلى الشرقية ( وهى
المديرية الوحيدة التي سار إليها بنفسه ) لملاقاة إبراهيم بك ومماليكه ، فوصل
بلبيس فى صبيحة يوم ٩ أغسطس سنة ۱۷۹٨ بعد أن أخلاها إبراهيم بك فاعتزم
نابليون أن يتعقبه قبل أن يغادر حدود مصر إلى الشام ولقى الفرنسيون في بلبيس من
بقي من الحجاج كما ذكرت . والحقيقة أن نابليون لم يلبث فى بلبيس طويلا لرغبته في
تعقب إبراهيم بك فأرسل قوة من فرسانه ليلة ١١ أغسطس وصلت إلى قرية القرين دون أن
يلحق بقوة إبراهيم بك الذي غادرها إلى الصالحية فتقدم نابليون إلى هذه الجهة حيث
اشتبك مع قوة المماليك فى معركة عرفت بمعركة الصالحية وقد حمى وطيس
القتال في هذه المعركة وكادت تدور الدائرة على الفرنسيين، كما كانت
هذه أول معركة وقعت بين فرسان الجيش واقتتلوا بالسلاح الأبيض، فتحرج مركز
الفرنسيين لبسالة المماليك ومهارتهم ولا نضمام بعض الأعراب إلى صفوفهم . ولم ينقذ
نابليون من ورطته سوى الجنرال لكلرك الذى أجبر المماليك على الانسحاب باستعماله المدافع.
ومما يدلنا على تفوق المماليك فى هذه المعركة جرح بعض خاصة رجال نابليون كالجنرال
سلکوسکی وديترس ياور نابليون .
والحقيقة أن الصالحية كانت المكان الذى وصلت فيه أسوأ الأنباء وأشأمها على نابليون
وضباطه فأكثروا من الندب والعويل ، يدلنا على ذلك قول مينو في مذكراته
عن الصالحية وكانت البلد السيىء الذي فقدنا فيه كل آمالنا وأمانينا وضحينا فيه
بمجهوداتنا جمعاء، إلى أن قال : يارب كيف تنتهي هذه الحملة فى مصر ؟ وكيف نؤمل
المساعدة وقد حيل بيننا وبين بلادنا ؟ أنعيش فى مصر بقية حياتنا بعيدين عن أولادنا
وآبائنا وأزواجنا وخليلاتنا ..؟ . . فقدنا كل هذا وأصبحنا في ديار مقفرة ، وبين
قوم لا نأ لفهم ولا يألفوتنا .
وفي الصالحية أيضاً أصدر نابليون أمره بتعيين الجنرال دوجا قومندانا
المديرية المنصورة والجنرال فيال على دمياط . وبعد أن وقف نابليون على هزيمة أبي
قير البحرية عمل كل ما يمكن ليؤثر على والى الدولة العثمانية بالبقاء فى مصر كما
كان في زمن المماليك . كما أراد أن يعقد أواصر المودة والصلح مع إبراهيم بك وذلك
لدقة موقف الفرنسيين وضعف روحهم المعنوية
فاستأجر نابليون أعرابيا على هجين سريع وأعطاه خطابا ليلحق بإبراهيم بك وهو في
طريقه إلى غزة على أمل أن يتفق . ومع والى الدولة وهذه هي ترجمة ذلك الخطاب :
(المعسكر العالم بالصالحية في ١٢ أغسطس سنة ١٧٩٨م
إلى إبراهيم بك :
لم يعد عندك شك في تفوق الجيوش التي أقودها . وهأنت ذا خارج أرض مصر
وأمامك صحراء واسعة ، وإنك لتجد في واسع خلى كل ماتريده من نعمة وسعادة واطمئنان ،
فهل لك أن تبلغنى في الحال رغباتك ؟
وإني أعلم أن باشا جلالة السلطان موجود معك فليكن هو واسطة ورسولا
للمخابرة بينى وبينك )
بونابرت
وليس عندى أى برهان على وصول هذا الخطاب إلى يد إبراهيم بك ولكن مما
لا نزاع فيه هو أن نابليون لم يتلق رداً ولا رسولا حتى ولم يعد إليه الأعرابي الذي
بعث الخطاب معه . ولو جاز لنا أن نتخيل وصول ذلك الخطاب فعلا ، فهل كان من الممكن
أن يؤدى إلى اتفاق إبراهيم بك مع نابليون كما اتفق مراد بك مع كليبر ؟ الجواب أن
كل الدلائل تؤكد أن إبراهيم بك ما كان ليقبل مطلقا لأنه كان قد أعد من قبل عدته للسفر
ولان جميع المماليك كانت لهم ثفة فى مقدرة الدولة على إخراج الفرنسيين من مصر ،
كما أنه ما كان يعقل أن يكون والى الدولة العثمانية رسول الاتفاق بين إبراهيم بك
ونابليون !!! .
بعد خروج إبراهيم بك ومن معه من أرض مصر وتوجههم إلى غزة لم يبق أمام
نابليون إلا الإسراع في العودة إلى القاهرة ليزيل بوجوده الأثر السيء الذي أحدثته
معركة أبي قير البحرية في نفوس المصريين وجنود الفرنسيين، كما أنه أدرك تمام
الإدراك أهمية موقع الصالحية من الناحية العسكرية . فقبيل خروجه منها أصدر أمره
للجنرال كافاريلى بإنشاء القلاع والطوابي والسكنات اللازمة . كما عين الجنرال
رينييه قومندانا لحامية الصالحية ومديراً لمديرية الشرقية ... سار نابليون بخطى
واسعة نحو القاهرة ليقضى على كل الآثار التي أحدثتها أخبار كارثة العمارة الفرنسية
فوصلها في يوم ١٤ أغسطس وهناك خاطب ضباطه بشجاعة ثابتة قائلا هانحن مضطرون لأن
تعمل العظائم وسنعملها ، وأن نؤسس فى هذه البلاد دولة كبيرة وسنؤسسها . إن البحار
تفصل بيننا وبين الوطن ولا سلطان لنا على هذه البحار ولكن ليس ثمة فاصل يفصلنا عن
آسيا وإفريقية : وعندنا من الرجال العدد الوافر ولا ينقصنا المدد لتقوية صفوفنا .
لم يبق فى الصالحية من قوات الفرنسيين سوى فرقة الجنرال رينيه وفرسان
الجنرال لكلارك، ومنذ ذلك الحين اهتم نابليون بتحصين الصالحة لحراسة برزخ السويس
ولمراقبة حدود مصر الشرقية ، ومعنى ذلك أن الشرقية اتخذت مركزاً من أهم المراكز
الحربية، ولم يكتف الجزال رينيه بالتحصينات التي أقامها كافاريلي بل نراه يحول
مسجد الصالحية إلى معسكر للفرق الفرنسية فأنشأ فيه الأفران والمخابز للجيش ، وأقام
فيه المدافع . وهناك من المؤرخين من يقول بأن نابليون أقر هذا الاعتداء المثير
الحفيظة الأهلين فطلب من جنراله أن
يزيد في عدد الأفران التي بالمسجد وعدد المدافع التى نصبت عليه ، بل أكثر من ذلك
أن أمره بأن يتخذ
في المسجد مخزنا للبارود ومستشفى للجنود ، ويجعل منارته كمرصد
لاستطلاع الحركات المعادية .
أما عن روح الأهالى في الشرقية فإنها كانت تتدفق ثورة وتفيض كظما
وغيطا وذلك لكثرة اعتداء الجنود وجرائمهم ، إذ كان الفرنسيو أما ينهبون القرى
والماشية فيضطر القوم إلى الرحيل عن قراهم لتهريب مواشيهم في الصحراء، كما امتنع
الأهلون عن بيع ما يحتاج إليه الفرنسيون وحملوا السلاح عند العدو وأخذوا يناوشون
الحاميات الفرنسية ويقطعون طرق مواصلات الجيش مع القاهرة ، ولقد اشتدت تلك الحركات
العدائية عند بذر بذور الثورة التى اشتعلت نيرانها فى القاهرة في اكتوبر تشجع
الشرقاويون على هجوم المخافر الفرنسية مما أدى إلى قتل بعض كبار الفرنسيين، فمثلا
قتل أهل بلبيس وكفور العايد ترجمان الجنرال رينيه الخاص على بعد أربعين متراً من
معسكر الفرنسيين العام في المدينة ، كما قاوم أهل « بيشة"
الفرنسيين عند ما شرعوا فى مصادرة خيولهم وذلك بالبنادق والعصى (
الشماريخ ) فعادت الكتيبة أدراجها .
ولعل سبب تحمس الأهالى ضد الفرنسيين وشدة مقاومتهم يرجع إلى وصول
الفيضان الذي عطل حركات الجند وانتقالها إلى القرى : كما أن الأمراض كانت قد بدأت
تظهر مع شدة الحرارة وبخاصة الرمد الذي فتك بالفرنسيين وانتشر بينهم ، كما أن
الثورة الشعبية التى استطار شرارها من القاهرة إلى الأقاليم زادت في حماسة الأهالى
وشجعتهم على مهاجمة معسكرات العدو وبخاصة أهالى بلبيس ومعهم نحو مائة فارس من
قبيلة العائد هجموا على كتيبة فرنسية في فجر ۲۲ أكتوبر وقتلوا
معظم جنودها ولكن رد رينيه هجمة العرب بعد أن انسحب إلى بلبيس كما طلب المدد من
القاهرة خوفا من حرج مركزه . و بعد قليل من الوقت وصل هذا المدد فهاجمه عرب
المعازة وهددوه ووضعوه في أحرج المواقف لولا استعمال المدافع التي ردتهم حتى قرية
غيتة (جنوب غربي بلبيس ).
وهكذا استمرت الحرب سجالا بين الشرقاويين و بين الفرنسيين بسبب عجز رينيه
عن تجريد قوة كافية على الثوار تغزوهم فى بلادهم وقراهم فأصبحت مواصلات الجيش
الفرنسي مهددة مما حمل نابليون على أن يرسل رسالة هامة إلى رينيه بتاريخ ٢٧ أكتوبر
يأمره فيها بتوقيع العقوبات القاسية على القبائل التى تمردت أو شاركت فى الحركات
الأخيرة ويأخذ منها الرهائن ويقتل مشايخ البلاد لأنهم المسئولون عما يحدث في
بلادهم . فلما علم الأهالى بذلك أوغلوا في البلاد البعيدة وبعضهم أخلى القرى
المجاورة وبهذا لم يستطع رينيه تجريد حملة لتعقبهم وآثر أن يعدل معهم إلى الملاطفة
فلجأ إلى المفاوضة مع زعمائهم لإعادة السكينة ولكنه لم يوفق ولذلك استمرت
الاضطرابات فى الشرقية حتى قبيل خروج نابليون إلى سوريا فتراه في شهر يناير سنة
١٧٩٩ يمر على الشرقية بعد عودته من رحلته إلى السويس ويقسو على أهلها ويذيقهم
المذلة والمهانة، وفي ذلك يقول الجبرتى،
وفى ليلة الاثنين غاية شهر رجب حضر ساري عسكر بونابرت من ناحية بلبيس إلى مصر ليلا
وأحضر معه عدة عربان وعبد الرحمن أباظة أخو سليمان أباظة شيخ العيايدة وخلافه رهائن
وأخذوا مواشيهم وحضروا بهم القاهرة وخلفهم أصحابهم رجالا ونساء وصغاراً .
وما فعل ذلك نابليون بعرب الشرقية وأخذ زعماءهم رهائن إلا ليأ من
جانبهم في حملته على الشام أو ليتق شرهم في حال هجوم الجنود التركية التي كانت في
ذلك الوقت قد احتلت العريش وأخذت في الزحف على مصر.
وأول ما بدأ الشيخ الجبرتى ينوه بحملة الشام قوله فى حوادث يوم ۱۲ رجب
، وقد ذهب عدة من العسكر الفرنساوية إلى قطية وشرعوا في بناء أبنية هناك وأشيع سفر
سارى عسكر إلى الشام والإغارة عليها .
وذكر في حوادث ۱۹ رجب أيضا أنه كثر الاهتمام والحركة لسفر الفرنسيس إلى جهة الشام
وأخذوا جمال عرب الترابين ليحملوا عليها الذخيرة والدقيق والعليق والبقسماط ثم
رسموا على الأهالى عدة كبيرة من الحمير والبغال فخاف الناس على حميرهم وامتنع خروج
السقايين والبراسمية وحصل للناس ضيق بسبب ذلك . نقلت هذه العبارة من الجبرتي ليرى
القراء أسلوب الفرنسيين في الاعتداء على المساكين وأخذهم دوا بهم التي يعيشون منها
وكأنهم استحلوا كل ما في أيدى المصريين واعتبروه ملكا لهم بأخذونه أنى شاءوا
وكيفما شاءوا وخصوصا الشرقية التي اعتبرها نابليون بمثابة مخزن للمؤن ومستودع
للماشية يأخذ منها كل ما يحتاجه وما تلزمه الضرورة كما أنها تأثرت بانتشار الوباء
الذى عم الحملة الفرنسية من الشام ومات كثير من أبنائها متأثرين بهذه الأوبئة
الفتاكة .
الحسينى منى على
المصدر
من كتاب الشرقية
وسيناء بحث تنشره منطقة الزقازيق التعيمية (1368 هجرية -1949م) ص من 183 الى 188