الأربعاء، 30 أبريل 2025

الريف فى الشرقية عام 1949 م

 الريف فى الشرقية عام 1949 م



 إذا تحدثت عن ريف الشرقية فإنما أتحدث حديث من نشأ فوق أرضه ، واستظل بسمائه ، وغير زمانا طويلا لا يعرف سواه، ينطبع بطباعه ، ويحن إلى ترابه ، ويتشوق إلى ملاعبه ... وإذا صورته لك ، فإنما أصوره في هذه البلاد، وتلك القرى الصغيرة المبعثرة هنا وهناك تحيط بأمها الكبرى ، وعاصمتها المحبوبة مدينة الزقازيق ريف الشرقية جنة من جنات الدنيا، يأبى الخير إلا أن يطل برأسه في كل بقعة من بقاعه ويشرئب بعنقه في كل سهل من سهوله، أو ربوة من روابيه ، بساتينه حافلة بكل ما فى الدنيا من ثمار وخضر ، وغيطانه مليئة بهذه  الكنوز المقدسة التى تشبع الجياع ، وتهب الحياة ، وتدفع بؤس البائسين وشقاء المعوزين ، والتي يعيش عليها الفلاحون فتكفيهم وتغنيهم من زرع مبارك الأغلال إلى ضرع توفر له الغذاء فاكتنز لحمه ، وغزر لبنه و تتوزع ريفنا الحبيب جداول وأنهار تكتنفه وتتخلله ، تلتوى فيه وتستقيم ، تجافي القرى تارة وتدنو منها تارة أخرى ، وقد تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم ، فتكون القرية بين أحضان الماء ، وحول الأنهار ومصارف الماء وخلجانه وجداوله  تقوم أشجار التوت والصفصاف والسنط والجميز عاتية جبارة ، وحارسة أمينة تحمي الجسور وتقويها ، وإنك لتعرف القرية قبل أن تصل إليها بأميال فهي الأخرى تحيط بها الأشجار العالية، الفينانة الفروع، المتهدلة الأغصان، والنخيل الباسقات المحملة بتمر الشرقية الجميل تلوح لك من بعيد بسعفاتها الخضراء ، ورؤسها المتمايلة في الفضاء .

 

 

نشأة الأطفال

في ريف الشرقية يعيش الجانب الأكبر من أبناء الشرقية ، يشبون بين أكناف المزارع الخضراء ، وعلى شواطئ الجداول الجارية، ويربون فى الهواء الطلق، وتصنع رجولتهم على ضوء الشمس الجميل ، يلقون العادات والتقاليد في سكون ساكن ، وهدوء شامل ، وصمت عذب، وقد وهبهم جمال الطبيعة جميل الطباع ، ومنحهم تغير السهول بما فيها من زروع القدرة على معاشرة الناس بما فى طباعهم من تباين ، وعلمتهم البيئة الوادعة الهادئة الوداعة والهدوء ، ولقنتهم مبادئ اليقظة وقوة الملاحظة ، وطبعتهم بطابع الذكاء ، ينشأ الطفل قوى البنية ، مرح الطبع ، باسم الثغر ، لا يشعر إلا بالسعادة الغامرة ، يتقلد التمائم والتعاويذ التي تقيه شرالعين كما يعتقدون ، حتى إذا اشتد ساعده ، وقوى عوده ، تركه أبواه ( للمكتب ) يتعلم فيه مبادئ القراءة والكتابة ، ويحفظ القرآن الكريم ، وكان ( لسيدنا ) معلم المكتب إلى زمن ليس بالبعيد اليد الطولى في بث مكارم الأخلاق فى نفوس هؤلاء الأبناء وكان يلقى إليه الآباء مقاليد التربية والتأديب ، وكان التلاميذ يرهبون بطشه، ويخشون عقابه الصارم ، وضربه الموجع المؤلم ، حتى إذا انتشرت المدارس الأولية والإلزامية في القرى ، وعرف الناس فضلها فى تثقيف العقول، وإنارة الأذهان ، أقبلوا عليها يدفعون إليها بفلذات أكبادهم، وتطلعوا إلى أفق أوسع مدى من المكتب . وفقدت، المكاتب ، مكانتها أو كادت ، وأخذ عددها يتناقص ، وسلطانها ينكمش ، وظلها يتقلص . وارتاعت لهذا المظهر قلوب ، وجزعت نفوس، وغار ذوو الغيرة ، وعجبوا للناس كيف ينسون مكاتبهم التي كانت تحمل أسمى رسالة ، وهي تحفيظ القرآن الكريم :فالمدارس الإلزامية التي نافست (المكاتب) لم تخلق لأداء هذه الرسالة ، وفكروا في إنشاء مدارس تؤدى رسالة المكتب خيراً مما كان يؤديها المكتب فكانت مدارس تحفيظ القرآن التى انتشرت في بلاد الشرقية ، وأحبها كثير من الطلاب ، ولا زالت في حاجة إلى عون وتشجيع ، ويا حبذا لو أتيح لذوى الشأن أن يلحقوها بالأزهر الشريف ، لتكون مدارس تحضيرية له ، فهى به أشكل ، وله أوفق.

 

الحالة الاجتماعية

يتألف سكان القرية من عائلة واحدة ، أو من عائلتين أو أكثر ، وتتألف العائلة من أسر يقل عددها أو يكثر بحسب النسبة العددية للعائلة ، وتتألف الأسرة الواحدة من أزواج وزوجات ، بنين وبنات ، يضمهم بيت فسيح ، وتجمعهم دار واحدة ، فالإخوة إذا كبروا وتزوجوا يؤثرون التجمع ، ولا يرضون بالانقسام، ويقولون : يد الله مع الجماعة، والبركة فى اللمة ، وإذا حدث تفكك فى أسرة ، وافترق الإخوة باتوا مضغة للأفواه ، ونهبا للسخرية ، وقد يتدخل بينهم عدو بالدسيسة فيزيد النار اشتعالا ، والخلاف احتداما ، وغالبا ما يكون ذلك بعد موت والد الأسرة الأكبر .

 

ولكل عائلة عميد ، يعالج مشاكلها ، ويسهر على ما يسعدها ، يأتمرون بأمره ، ويرضون بحكمه ، ويعملون مايشير به، ويجلونه غاية الإجلال ، ويغارون على كرامته من أن تخدش ، وهيبته من أن تمس ، وقد يحدث في بعض الأحيان أن يتصدى رجل ذو مكانة في العائلة لعميد الأسرة ، يجرحه ويعيب سلوكه في العائلة ، محاولا أن ينتزع منه ما يتمتع به في العائلة من نفوذ واحترام ، فتنقسم العائلة إلى قسمين يسعى كل منهما إلى إيذاء الفريق الآخر والنيل منه بشتى الأساليب.

 

ويقطن القرية قسم آخر ، هم الأجراء النازحون الذين يلتمسون الرزق ، ويطلبون العيش، وهؤلاء يعيشون في كنف العائلات التي تشبعهم من جوع وتكسوهم من عرى ، وتحميهم وتؤويهم ، وقد تكون أجورهم يسيرة لا تفي بحاجاتهم ، ولكنهم يستطيعون أن يؤموا منازل العائلات ، ويخرجوا منها محملين بخيرات الله من حبوب وألبان وزبد وجين وخبز طازج، ومتى كانت زوجة الأجير نشيطة أمينة مطيعة ذكية استطاعت أن تجنى من بيوت العائلات الخير الوفير ، وأبناء الأجير أو ( المرابع) يستطيعون أن يعيشوا مع صاحب الأرض فى منزله إذا رعوا دوابه يخرجون بها أول النهار ويعودون بها إذا غربت الشمس ، ويقدمون لها العلف في المنزل ، ويفرشون حظائرها بتراب جاف ، ويؤدون بعض الخدمات المنزلية لرب الأسرة ، وهم في نظير ذلك يأكلون ويكتسون ويتقاضون أجراً يساعدون به آباءهم أو أمهاتهم  يسمون بالكلافين ) .

وأهل القرية شغوفون بالسمر وأحاديث الليل وأقاصيص الأبطال فتراهم يتجمعون على المصاطب يستمعون بشغف إلى قصة أبي زيد الهلالى أو عنتر بن شداد أو دياب بن غانم ، من قاري في كتاب ، أو شاعرعلى (رباب) والمتعلمون منهم يهتمون بقراءة الصحف والمجلات، ويتناقشون فى السياسة ؛ وإذا زرتهم سألوك عن رأيك وناقشوك الحساب ، وفيهم ذكاء عجيب وفهم دقيق ، فقد يحرجون المتعلم ، ويلجمون الأديب .

 

العادات والتقاليد

أهل الشرقية أهل جد و عمل ، لا أهل بطالة وكسل ، يمقتون من يحاول التسكع على المصاطب ويسلقونه بالسنة حداد ، ولذلك لاتجد فيهم إلا مقبلا على عمله ، تدفعه الغيرة إلى خدمة أرضه ، ورعاية زرعه ، حتى يكون حقله خير الحقول غلة ، وأوفرها محصولا.

 

وفى لغتهم صرامة وقوة ، وفي أدائها عنف واندفاع ، تلك طبيعة وجبلة في أهل القرى ، وهى ( عند من يخالطهم ) لا تنافى كرم عشرتهم ، ولا تطعن في شرف خصالهم .

 

وأهل الشرقية معروفون بالكرم يبيتون على الطوى ويكرمون الضيف ويحسنون إلى الغريب لا يفطرون في رمضان إلا أمام منازلهم ، لعل عابر سبيل يأوى إليهم ، أو جائعا يمر بهم ، وفي الشرقية يعيش الضعيف في كنف القوى ، والفقير في رحاب الغنى . وللناس فى كرمهم أساطير وأقاويل ، يظن كثير من الناس أنها من صنع الخيال ومن ذلك قولهم : إن أهل الشرقية استضافوا القطار ، وقدموا له الطعام والشراب، ولفائف التبغ وهذا حق لامرية فيه ، ولازال أحفاد هذا ( العمدة ) الكريم يتفاخرون بأنهم ( عازمو الوابور ) .

 

وذلك أن الحكومة المصرية كانت قد أنشأت أول خط حديدى يمر ببلدة  "كياد "، ففرح العمدة بهذا الحدث الجديد ، ، واستوقف القطار واستضاف السائق وراكبي القطار . وهم كثيرون - وبالغ في إكرامهم فرجعوا إلى بلادهم وألسنتهم تلهج بالثناء عليه .

 

وفى المآتم حيث يكثر الغرباء يخرج أهل القرية جميعا إلى مكان المأتم ظهرا ومغربا في انتظار موائدهم وعليها من ألوان الطعام ما أفرغوا في إعداده غاية الجهد، وحول هذه الموائد يلتف الغرباء من المعزين. وأهل الشرقية أشد الناس تصديقا بالخرافات وإيمانا بالأوهام؛ فالطفل إذا لم يعش إخوته من بعده اعتقدوا أن روحه شريرة وأن علاج هذه الروح لا يكون إلا بفضيحة هذا الغلام. ويعدون لهذه الفضيحة عدتها، فيجمعون من ريش الدواجن ما يصنعون به تاجا يضعونه فوق رأسه ثم يركبونه حمارة ظهره إلى وجهها مسكا في يده اليمني بريشة دجاجة وبيده اليسرى قرص جاف من روث البهائم، ثم يتظاهر بأنه يكتب على القرص بهذه الريشة كل ذلك وأطفال القرية يحيطون به ينادون بحناجرهم الفتية ( يابو الريش إنشا الله تعيش ) وقد يسألون هذا الطفل « هل أنت ناطح أم رافس ، ؟ يريدون ، هل تنطح كما ينطح الثور ؟ أو ترفس كما يرفس الحمار ؟

ويلزمونه بجواب ينطق به مكرها غير مختار ، فإن قال أنا ناطح، وشموه بوشم أخضر في منبت شعره فوق جبهته ، وإن قال : أنا رافس ، وشموه بوشم أخضر فوق عقبه الأيسر ، وإن قال . أنا رافس ناطح وشموه في الموضعين معا .

 

ولأبناء القرية ألعاب محببة إلى نفوسهم يعشقونها ويواظبون عليها في بيادر القرية : منها لعبة  "الحكس" وهى كرة في حجم كرة القدم مصنوعة من رقاع بالية ملفوفة فى قطعة من الخيش حيكت بخيوط غليظة ويتقاذف هذه الكرة فريقان بعصى غليظة معقوفة ، من أغصان الشجر ، وكثيرا ما يختلقون روايات يمثلونها خير تمثيل حتى لكأن التمثيل « فن درسوه وحذقوه ، هذا يا قارئي العزيز هو ريف الشرقية بلدنا الحبيب فى اختصار ألجأنى إليه المقام ، ولست أجدني في حاجة إلى تنبيه القارئ إلى ما صارت إليه الشرقية فى هذه الأيام من نهضة تعليمية مباركة شملت جميع القرى وسائر البلدان ، ساهمت فيها سهولة المواصلات وإيمان الناس بضرورة التعليم، وباركها الفاروق عاهل الشرق ومليك وادى النيل ، أيد الله ملكه ، وأعز جنده ، ورعاه .

 

عبد المقصود السيد راسى

المدرس بمدرسة الجمعية ببور سعيد

.

المصدر :

المصدر

من كتاب الشرقية وسيناء بحث تنشره منطقة الزقازيق التعيمية (1368 هجرية -1949م) ص من 36 الى 39

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق