الأربعاء، 30 أبريل 2025

العادات والأخلاق الكريمة فى الشرقية

 

العادات والأخلاق الكريمة فى الشرقية

 في إقليم الشرقية كثير من العادات ورثوها عن الآباء والأجداد، وسنتحدث عن الواضح منها في القرى خاصة، وهذه العادات التي نسطرها مما رأيناه بأعيننا وسمعناه بآذانا أو حدثنا عنه الرواة الثقات ممن استضأنا بآرائهم في هذا الموضوع ، وعادات أهل الشرقية كثيرة لا يحصيها عد ، ولا يفي بها مقال ، ولابد للباحث عنها أن يجوس خلال الإقليم ويتعرف إلى قراه ومدنه ، وإلى سكانه من بدو وحضر ، وأن يطيل المقام بينهم حتى يتقصى هذه العادات، لكننا كتبنا ما اتسع له وقتنا ، وما نحن به عالمون ، وواثقون ، وعنه مسئولون ،وربما يند القلم عن بعض العادات ولنا العذر في ذلك .

 

ففي أفراحهم عندما يعتزمون الزواج والمصاهرة يقيمون الأفراح عدة ليال تطول وتقصر تبعا لحال الأسرتين من غنى أو فقر ، قليلة يجتمعون حول شاعر بيده ربابة ويقص على السامعين لهو الحديث وأحسن القصص عن حروب بني هلال وبنى زناتة من عرب المغرب، ويطربون ويكادون يحفظون هذه القصص وإن نسى الشاعر ذكروه أو قصر طلبوا تكملة القصص وهم في أثناء ذلك ما بين مصفق بيديه ، وما بين صائح صياح الفرح، ونداءات عالية مخلفة : وفريق ناصر أبا زيد الهلالي، وفرق بناصر دياب بن غانم و ويعرفون الكثير عن حروب العرب في طرابلس وأسماء الفرسان والعبيد والموالي والمواقع ، ويرددون أشعاراً جميلة في ذلك  يستمرون حول شاعرهم فرحين حتى مطلع الفجر فتقضى ليلة سعيدة، وليلة ثانية يستأجرون راقصة معها طائفة تمثل وتغنى وتضحك ، فيجتمع أهل القرية في مكان فسيح قريب من بيت أهل العروس ويقضون ليلة طويلة بين رقص وضحك وغناء وتمثيل ، وكلما أتمت الراقصة أو المغنى أو الممثل أو المضحك شوطه مر بالجالسين وبيده منديل وكل يلقى فيه ما تجود به نفسه ؛ وليلة ثالثة يحضرون رجلا ذائع الصيت معروفا بنشد "المواليا" فيجتمع أهل البلد في مكان واسع ويبدأ في إنشاده ملقيا التحيات اللطيفة على الحاضرين ثم يتقدم إليه فتى بشيء من المال على عصا أو ساعة أو أسورة من ذهب أو عقد من اللؤلؤ فينشد الرجل لصاحب العطاء موالا ، يختمه بتحية تشير إلى ما قدم إليه فيصفق الجميع ويصيحون فرحين بحسن اختيار الشاب وبتوفيق المغنى إلى حد الإعجاب.

 

وفى اليوم الذى فيه الزفاف وفى ليلة البناء من العصر يجتمع أهل القرية من شيب وشبان لنقل العروس من بيت أبيها لبيت زوجها في حفل عام رائع ويبدءون من بيت أهلها وأمامهم الطبال والزامر ، ويتقدم الجمع رجلان أو ثلاثة ممن يجيدون امتطاء صهوات الخيل وتلعب خيوطم ، ترقص حينا وتنام براكبها ثم تنهض ، ويتسابق الفرسان ، والغالب يضرب المعلوب بعصا ، وهى خيول مسومة  وفرسانها أبطال وأحيانا يتقدم الجمع رجلان يلعبان بالعصا، ولهما في لعبتهما قوانين موروثة وتعاليم معروفة ، وبعد أن يقضيا شوطهما يتسلم غيرهما بين الهتاف والإعجاب ، وإذا مر هذا الجمع الحاشد أمام بيت به رجل مصاب بوفاة أو كارثة توقف الفرح وأمسكوا عما هم فيه إجلالا وحرمة لأهل المصاب ، ومن تخطى هذه العادة ولم يرع حرمة ذلك عد خليعا وتربصوا به الدوائر.


وأهل البلد فى ذلك كله فرحون مسرورون، وزامر الحى يطرب. ومستمرون حتى يصلوا إلى منزل الزوج فيحمل العروس زوجها بنفسه وفى ذلك فخر له وشرف وشهامة وعند ما يدخل البيت يجد أمه في انتظارها جالسة القرفصاء فنقفز العروس متخطية حماتها للتبرك بها وقلما تدوم البركة ، وفى بعض الجهات تقف أم العروس في باب الحجرة رافعة رجلها اليمنى لتدخل العروس إلى حجرتها من تحت رجلها .


وتمد الموائد للناس ويطعمون الطعام ، كل على قدر طاقته ، وبعد الانتهاء من العشاء يستعد الشبان لزفاف الفتى "العروس " فيجتمعون عند منزل أحد أقاربه من أعمام أو أخوال وقلما يخرج من بيت أجنبي وإلا عد من لا أهل لهم .


يجتمع الفتيان على هيئة حلقة ويغنون ويصفقون ويهتفون حتى يستحم العروس . فإذا خرج نظيفا معمما في الغالب توسط أترابه ويسيرون في صفين طويلين وبيد كل شمعة مضيئة ، وينير لهم مصباح قوى أو مصباحان.

.
ويسيرون مرتلين أناشيد الفرح والدعوات الصالحات والذكر والصلاة على رسول الله ، ومن عجب أن تسير النساء خلف الرجال مجتمعات مغنيات راقصات وتحمل إحداهن وعاء مملوء بالنار الملتهبة التي وقودها الخشب أو غيره ويحرقن البخور والعود والند والكافور منعا لعيون الحاسدين ، وينثر الملح الخشن أو الناعم على رؤوس الحاضرين، وبعض الموسرين والأحباب ينثرون على الناس ألوان الحلوى فرحا وابتهاجا بالعرس وتقديرا لأهله ، فإذا ما قارب الجمع منزل العروس أسرعوا به جريا حتى يزجوا به في بيته ويدخلوه على عرسه، وينصرف الكثير في مكان بعيد ، وكثير من الخلان يقفون على باب غرفتهما مصفقين مهللين مغنين ضاحكين لاعبين رافعى أصواتهم بكلام مختلف فيه تشجيع له وحفز لهمته ، حتى لا يهاب موقفا حرجا مارآه في حياته ولأنه يدخل الدنيا ، فإذا ما خرج سمعت أصوات قذائف النار متتالية .


وهنا نشهد المؤلم فقد يكون ضارب القذيفة غلاما طائشا أو لاتواتيه الأقدار فتصيب القذيفة رجلا أو امرأة أو طفلا فينقلب الفرح إلى مناحة ، وهذه عادة سيئة ذميمة كم غرست من أحقاد وعداوات ، وربما تصيب العروس نفسها وإنها لإحدى الكبر ، وإن أطلقت القدائف من رجل بحرب ولم تصب أحداً اجتمع أمل القرية في مكان واسع وقضوا ليلة زاهية يستمعون إلى ما يسمى بالسامر ، يهيئه لهم الطبال والزامر والراقصة وجمع من يجيد اللهو واللعب ، ويسمرون حتى مطلع الفجر ثم ينصرفون . وفي صبيحة ليلة الزفاف تخرج أم العروس من بيت أبيها ومعها جمع من النسوة وكثير من الفتيات فى غناء وتحمل البنات ما صنعته الأم على رأسها قطعة من اللباس الأبيض الخفيف النسج الملوث بالدماء تلوح للناس أن ابنتها طاهرة الذيل نقية العرض ، ولتقطع كلام الشامت العادى ، ويتسابق أقارب العروس وزميلاتها والرجال والنساء ليقدم كل لها بعض المال، وهذا قرض ودين فى عنقها تسدده عند الزواج وتوزع العروس الهدايا هذا عند أهل القرى من الفلاحين.


وعند البدو وهم كثير فى الشرقية في بقاع مختلفة في أبي كبير وفاقوس وكفر صقر وبلبيس قبل العرس بنحو شهر أو نصفه يحتشد كل مساء شبان البلدة ويقفون على شكل نصف دائرة ويصفقون مع مد أيديهم إلى الأمام والخلف ويرتلون غناء عربيا معروفا لديهم وترقص أمامهم امرأة أوفتاة محجبة في وسطها حزام وبيدها عصا أو سيف تحجل وترقص متنقلة يطلق عليها في بعض الجهات" الحجالة" وفى بعضها" الحادى" وفى كل فترة قصيرة يقف الرقص والتصفيق ويغنى أحد الرجال أغنية يعقبها تصفيق وتهليل ، وقد تطلق قذائف نارية
والغناء يدور حول الشجاعة والمروءة والوفاء والهوى العذرى . وإذا جاء يوم العرس أعد هودج على جمل قوى ثابت وتركب العروس ومعها زميلات لها من أحب الناس إليها وأقربهن ويسير الموكب من جمال عدة خلف العروس وقذائف نارية ، وقد يتقدمه خيول أو لاعبو العصا ، وإن مر الموكب ببلد به عرب أو فلاحون کرماء فلابد من وقفة طويلة ، وتقدم الدعوة والقهوة والتحيات. وأحيانا تذبح الذبائح وتقوم المعارك والأمر يومئذ الله . ومن عاداتهم فى الأعياد أن يجتمع أهل كل جهة فى مكان واسع منزل ( دوار ) من عصر يوم وقفة العيد ، وإذا ما أذن المغرب مدت الموائد محملة بأنواع الطعام فيأكلون ويشربون ويسهرون حول قارئ للقرآن أو مستأنسين لحديث ، وكثيرا ما يخرج النساء إلى المقابر من عصر ذلك اليوم ومع كل طعامها و ما تصدق به على موتاها ، وقد يقضى النساء ليلة في المقابر وهى عادة قبيحة مذمومة كاد يقضى عليها . وفي صبح العيد يخرج الناس إلى المساجد رجالا وشبانا فيصلون العيد ويرجعون إلى مكانهم العام، وعقب خروجهم من المساجد يجدون دائرة واسعة من الناس كل يسلم على أخيه مهنئا له بالعيد ولا يترك أحدا وإلا عد خارجا على العادة ثم يجتمعون للطعام، ويكثر السائلون ولا يقل المتصدقون ثم يتزاورون في البيوت والمجالس
والأندية ، وللأطفال فى أيام العيد ألاعيب مفرحة فأرجوحة ولعب صغيرة ؛ وللشبان لهو وعبث قد يكون برينا وقد يكون بغيضا محرما .


وفي مولد الرسول من أول يوم فى شهر ربيع الأول تنصب الخيام وتقام السرادقات ، وتتزين الأندية ؛وفي كل ليلة من ليالى هذا الشهر يحتفل مشايخ الطرق، فيسير كل شيخ فى وسط صفين من رجاله بيدهم الشموع والمصابيح ويرتلون صلوات ودعوات وأذكارا . وفى الليلة الثانية عشرة يتوجه رجال الطرق في مواكب حافلة ، ولكل شيخ إعلان مكتوب على قطعة من النسج حمراء أو خضراء أو بيضاء، تعلن عن الطريقة وعن شيخها وعن مكانها ، ويذهب الجميع إلى الزقازيق حيث أعد لهم سرادق كبير، ويسلمون على النائب العام ويقفون بين يديه طويلا أو قصيرا حتى يأذن لهم ثم يعودون إلى قراهم وبلادهم مسرورين. وفي القرى تقرأ القصة النبوية بروايات مختلفة وأنغام سارة. من قارتين وقارئات و تحتشد المجالس بالذاكرين الله كثيرا والذاكرات ويتسابق الناس في هذه الأيام المباركة بإطعام الطعام على حبه مسكينا وبنيها وفقيرا .


ومن عادتهم في المناحات إذا مات كبير موسر أحضر أهله نورا أو أكثر وذبحوا  تحت نعشه فخرا أو ابتغاء مرضاة الله وتقام المنتاحة ( المأتم ) ثلاث ليال وقد تمتد إلى سبع أو أكثر عند البدو ، وعند الفلاحين يكتفي بليلتين في الغالب وبليله واحدة في القليل ، ومن النادر أن يكتفى بالعزاء على المقبرة.


وبعد العودة من المقرة، يقيم الموسرون القادرون سرادقا كبيرا  مفروشا بالبسط الوثيرة وبه كراسي مصفوفة وزرابى مبثوثه  وأرائك مذهبه  وشيخ مشهور يقرأ القرآن وأمامه مكبر الصوت ، ويسارع أهل القرى المجاورة من أهل البلد والأصدقاء والعارفون به لتعرية أهل الميت، ويغالى الناس في ذلك أو يقتصدون تبعا لمنزلتهم  . ومن العادات الرديئة أن يسير النساء خلف الميت معولات باكيات ، ويقام لهن سرادق خاص به  نور و طعام و شراب وحديث وقصص وويل للقصر الذى لا يقدم لهن  ما يشتهين .


أما أخلاق الشرقية فهي راجعة إلى عروبتهم الأصلية وطبيعتهم الأثيلة ، ولا يشاركهم في بعضها إلا قليل من أهل الصعيد وأولها الكرم ، فالضيف الذى ينزل بأهل القرى من أبي كبير وفاقوس وكفر صقر ومعظم بلاد الشرقية حينما يراه صاحب منزل يجد وجها ضاحكا مستبشرا ويلقى أهلا وسهلا ويسمع حديثا عذبا وتقدم له القرى من أطيب اللحم وأجوده ، ويزدحم الناس حوله مرحبين بمقدمه مكرمين مثواه ، وكل بسط له الدليل ليكون ضيفه ولسان حاله يقول :

:
خرج علينا فأقم ساعة      فعندنا إن شئت روح وراح


وإن نزال الواحد ضيقا برجل أصله عربي أو خالط العرب وقبس من طباعهم سارع المضيف وذبح خروفا وقدم للضيف مايشتهي وما يلذله وما يليق ونأى بعيوب اللحم، والعرب خاصة معرفة بأعضاء الذبيحة. فمنها ما يقدم ومنها ما يحجب عن الضيف ، وبعد إتمام العشاء يجتمع خلق كثير حول الضيف ويختارون لهم قاضيا من بينهم عرف برجحان العقل والوقار ويقدم كل له ما يجعله أولى بالضيف من غيره ، ويعيد القاضي على الجمع حجة كل ودليله ثم يقضى بينهم بالعدل، فإن رضوا فبها، وإن اختلفوا اختاروا ثلاثة من القضاة وقدموا أدلتهم من
جديد وحكمهم نافذ مطاع والضيف مستمتع مرور بما يسمع ويرى وشاعر أنه استبدل أهلا بأهل وجيرانا بجيران . وتنشأ عن حبهم للكرم وأفعالهم فيه  إشاعة أنهم "أقاموا للقطار مأدبة " ولا يعلم في أي مكان من الشرقية كان ذلك فقيل في أكياد وقيل بأبي كبير وقيل بالعصلوحي وهذه إشاعات للتفكهة.


ومن كرمهم مواساة من عنده مناحة ، إذ يخرجون الموائد مرتين فى اليوم وثلاثا مدة  المناحة، وإطعام الطعام في شهر رمضان قبيل المغرب السائل والغريب والضيف .

 

ومن أخلاقهم الشجاعة، فهم لا يبطئون في حماية الغريب والجار والضعيف إن نزلت به نازلة أو أصابه دائرة، أو حل به ضيم، شمروا عن سواعدهم وحملوا عصيهم وأسلحتهم ومنعوا جارهم وردوا العدوان : إن اإستغصت بهم أغاثوك ، وإن استنصرتهم نصروك، وإن لجأت إليهم حموك وأعزوك ، وعندهم الغيرة والعفة:

فالمرأة  في الشرقية محجوبه مستورة مصونه والرجل يغار على أهله ، ويحمى عرينه، ويصون عرضه بماله ، ويردد:

 

اصون عرضى بمالى لا أدنسه لا بارك الله بعد العرض في المال


ولعل مدن الشرقية التى إقتبست من الحضارة والمدنية اختفى فيها الكرم والغيرة والعفة وكثير من الصفات التي جاءت بها المدنية.

ومن أخلاق الشرقية صفاء القلب وسلامة النية ونقاء الضمير ، حتى شاع في كثير من الجهات أن أهل الشرقية فيهم سذاجة، ويسهل التغرير بهم وخداعهم ، فكم من رجل وقع في يد الماكرين والدعاة والشطار، فمحتال ، ولص، وقاتل ، ينزلون عند رجل كريم، وبالحيل البارعة والأحاديث الملفقة المزورة يرجع كل مملؤ الوطاب، وكم من رجل من الشرقية قدم إلى مدن فخدعته الزينة والبهرج وتلقاه البارعون فسرقوا متاعه وماله ورجع خائبا وهو حسير. ولكن انتشار التعليم والتجارب وإنقراض الجيل القديم والحرص على الدنيا جعل أهل الشرقية فى هذه الأيام في مكانة مرموقة غيرت المعروف عنهم من البله ، بل ربما روى عن بعضهم قصص فى الدهاء والمكر تذهل العقول، وتغلب الساحرين.

ومن أخلاقهم الصدق والصراحة والبرء من الغش والنفاق والمداهنة ، وفيهم روح البر بالوالدين والإحسان إلى الأهل والأقربين

.
وحرمة الدين عندهم مقدسة ، فهم يجلون العلماء ويقدمونهم ورجال الدين لهم الكلمة العليا بينهم ، وكثير بينهم المتصوفة والأولياء الصالحون ، وانتشرت مزارات الأولياء .


وفي مولد الشيخ أبي مسلم قرب بلدة بحطيط ينزح أهل الإقليم ومعهم نساؤهم وأطفالهم وخيامهم ومذابحهم ويمكثون أسبوعا في الصيف ويطعمون الطعام ويوفون بالنذر ، ويزورون الشيخ ويتبركون به ويستمعون المغنين والمغنيات والقارئين والذاكرين ، ويرون أنواعا من اللهو والعبث والمفاتن منها ماهو حلال ومنها ماهوحرام . وبعض الأغنياء ينفقون فيه عن سعة ويعدونه مصيفا لهم ويرجع الناس منه بحقائب االحلوى والحمص والسمك المملح . والمعيب فيه اختلاط النساء بالرجال وارتكاب كثير من المحرمات .


ومن أخلاق الشرقية الشجاعة التي ضربت بها الأمثال فى القديم والحديث ، فتقوم المنازعات بين الأفراد والأسر لأوهى سبب ؛ وتراق الدماء وتزهق الأرواح، للذود عن العرض، والدفاع عن الحق ، ولنصرة الضعيف والمظلوم ، ولرد العدوان ولا يضعون السيف حتى تضع الحرب أوزارها .


ومن أخلاقهم العفو فإذا نلت أحدهم بمساءة وقدمت إلى بيته فلا جناح عليك فيما فعلت وترى صدرا رحبا وعفواً جليلا وصفحا جميلا .


وأهل الشرقية مساميح . تذهب إلى الكثير منهم طالب حاجة فتنزل عنده منزلا مباركا وتؤتى سؤلك وتقضى طلبك وتنقلب إلى أهلك مسرورا . ومن عاداتهم الناشئة : عن الشجاعة لاقتناء الجياد المطهمة والخيل المسومة ؛ إذ يعنون بها عناية فائقة، فيأتون بها من الشام معروفة النسب ، ويربونها ويستولدونها ويركبونها للزينة ، والسباق ، والسفر ، ويضعون على متونها سرجا محلاة بحرير كأهداب الدمقس المفتل ، ولها لجم من فضة أو ذهب، ويرددون قول المتنبي :

....وما الخيل إلا كالصديق قليلة     وإن كثرت في عين من لم يجرب

. وبعد ، فهذه العادات والأخلاق لاتزال منتشرة شائعة بين القرى عند الفلاحين وعند العرب وتكاد تضعف حتى لا يرى فيها أثر فى المدن . ومن يحكم على أخلاق الشرقية بما يرى في المدن فهو ظالم لنفسه ولقوم طبعوا على الفضائل، وورثوا المكارم . ومن أراد الوقوف على الحقيقة فليزر القرى والعرب وسير اهم :


ضربوا بمدرجة الطريق خيامهم      يتقارعون على قرى الضيفان
ويكاد موقدهم يجود بنفسه           حب القرى حطبا على النيران


وما أصدق قول القائل :


لا تمد من امرأ حتى تجربه          ولا تذمنه من غير تجريب
محمدك المرء ما لم تبله خطأ       وذلك المرء بعد المدح تكذيب

 

محمد محمد راشد

المدرس بالزقازيق الثانوية


الأخلاق الكريمة في مديرية الشرقية
الشجاعة - الكرم - العفاف والغيرة – الصدق - البر والدين

 


الشجاعة :

 

إن إقليم الشرقية قد أشربت نفوس أهله شجاعة حقة بما وقر فيها من مظاهر البسالة الرائعة ، لامتزاج الأهلين بالعرب الوافدين على مصر منذ فجر التاريخ. وقد توالت وفودهم على مصر ، واستوطن أغلبهم هذا الإقليم وصاهروا أهله ، وارتبطوا بهم بوسائل مختلفة حتى زالت من نفوس الكثيرين منهم النعرة العربية إلا قليلا من القبائل حافظ على صبغته العربية فى  المصاهرة والعادات دون اللغة وأسباب النفع والحضارة  وتجلى مظهر الشجاعة فيهم في بدء الدولة العباسية لما أراد الرشيد الزيادة عليهم في الخراج ، فأبوا الخضوع لأمره ، إذ عدوه ظلما صراخا ، وحدثت بينه وبينهم مواقع حربية ( بمنية مطر ، وههيا ، وصان ، وفاقوس )
واضطر إلى أخذهم بالحيلة ، واستمروا يدافعون عن مبدئهم بشجاعة حتى كان عهد المأمون ، فزارهم في محرم سنة ٢١٧ هـ  وخفف من غلوائهم بزيارته . وفى عصره استقل طاهر بن الحسين بإقليم الشرقية ، وجعل بلبيس قاعدة لإدارته. ولما جاء المعتصم أعجب بشجاعتهم ، فاتخذ منهم حرساً سماهم المغاربة، قناصروه في الحروب الأسيوية ، وبخاصة فى المواقع التى دارت بينه وبين  "بابك الخرمى" وكان قائدهم الأفشين الأكبر سنة ٢٢٢هـ.

 

وقد حالفتهم الشجاعة حتى عصر المماليك فناصروهم على العثمانيين بالصالحية وغيرها  كما قاوموا الحملة الفرنسية ببسالة نادرة، وإباء كريم ، حتى أسر زعيمهم عبد الرحمن العايدى زعيم عرب الشرقية ( هو رأس أسرة الأباطية بالعايد) و ما ببعيد مناصرة الحوف الشرقي ، "مديرية الشرقية " لمحمد على باشا كما يخبرنا التاريخ بذلك ، حتى منحهم عطفه ، وأصلح أرض التل الكبير ،، وحفر بالشرقية ألف بئر ، لا تزال آثارها بين ظهرانينا ، وغرس بها نحو ألف ألف شجرة من التوت التربية دودة الحرير. وأنزل بها بعض الأسر النابهة في الزراعة بالصوة والوادى .

 

طوى ذلك البساط بما فوقه من الجياد المدربة، والأبطال البسل ، والحروب المتشابكة ، ونشر بساط آخر والناس فوقه نيام في حراسة الشرط والجند.

 

ولكن بذور الشجاعة وإن اعتورها ما يمنع نموها وازدهارها لم تمت في نفوس أهلها ، فقد ظلوا كراما يأبون الضيم ، ويتمسكون بمبادئ الدين الحنيف الذى يؤيد الشجاعة الحازمة بعيدة عن التطرف ، ويتذرالجبان بأفظع عقوبة على جبنه إذ يقول الله تعالى :

﴿ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.

فإذا أتاحت الظروف لهذه الشجاعة أن تعين أهلها ، وتحفظ عليهم كرامتهم وشرفهم لبوا نداءها سراعا وأمدوها بالنفس والمال، وارتخصوا في سبيلها كل نفيس وغال .

 

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى     حتى براق على جوانبه الدم

وكثيراً مانرى المشاجرات الدامية تنشب بين بلدين أو أسرتين لاختلاف على سقى مشترك ، أوكلمة جارحة للشرف ، أو اعتداء على حق ، ولا يسع المديرين والحكام إلا التوسط بين رءوس تلك البلاد والأسر وإصلاح ذات البين  لأن يد السلطة وصدر القانون لا يتسعان لنضال هذه الشجاعة ، ولا يقويان على قتل هذه الخصلة المتأثلة في النفوس ؛ وثم ظاهرة أخرى لهذه الشجاعة التي حالفت أهلها ، ولم يقو الجامع الأزهر معهد العلم الشريف - على توديعها على الأبواب ريثما تنفض حلقات الدروس حتى رأينا المعارك تقوم بين طلاب الشرقية وطلاب الصعايدة لأتفه الأسباب  لأنهما يستمدان الشجاعة من الروح العربي الكريم الذي يتغلغل في نفوسهم، ولئن كانت الحضارة والعلم والدين خضدت من شوكة الشجاعة فأخفت كثيراً من

مظاهرها ، فإن الشجاعة الأدبية قد نابت عنها لأننا لم نزل بعد في حاجة ماسة إلى معونتها لنا في جميع أمورنا .

 

فإن أهل الشرقية لا يخشون أن يشهدوا على المجرم الأثيم ، والفاتك الجرىء ، فيقضوا على أسباب الجرائم ، ويعينوا الحكام على أداء أعمالهم ، ويخضعوا القوس لسلطان الحق والقانون والله تعالى يقول :

 " ولا تكتموا الشهادة ، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه "

 فكل فرد من أهلها تتدفق منه حياة وعناية بجميع شئونها حتى يريك من نفسه فرداً واحداً كأنما أفرغت فيه أمة بأسرها ، وليس يضيرها في ذلك أن تتضاءل فيها نسبة التعليم عن سواها من المديريات الأخرى، فإن العالم الذي يفقد الشجاعة يفوت الناس في أكثر المواضع أن ينتفعوا بعلمه ، وذا الرأى تعوزه الشجاعة ليدلى إلى الناس برأيه ، وإن الشخص ليبنى له بيتاً منا بخلق واحد يكون فيه : وإليك أمثال حاتم والسَّمَوْءَل وعنترة والأمة العربية التي لم تبلغ ما بلغت في الإسلام إلا بالشجاعة والاتحاد.

الكرم :

 

وهو أخو الشجاعة - رضعا معاً لبان الفضيلة ، وترفعا عن صفات الرذيلة ، وتطلعا إلى النيل، وضمنا لأهلهما السؤدد والشرف الرفيع، وقد استبان حظ أهل الشرقية من الشجاعة . أما الكرم فكان الوسيلة للحفاوة بالوفود العربية التي احتلت هذا الإقليم في أوائل القرن الثانى من الهجرة ، وكانوا من أشرف بيوتات العرب ، وفشو الكرم فيهم حبب إلى العرب مصاهرتهم ومجاورتهم ، ولا تزال هذه الظاهرة فيهم حتى إنهم ليفون لأصدقائهم بواجب الولاء ، ويقومون بضمانهم ، ولو أدى ذلك إلى انتزاع أموالهم وفقد ضياعهم وأملاكهم، ولدينا أسر كثيرة هوت إلى هوة الفقر في مركز فاقوس وغيره من جراء ذلك ولكن بيوتها المجيدة لا تزال تنطق بالفخار لهذه الأسر العريقة في الكرم والوفاء .

 

وقد أفضى الكرم بأهل إكياد عندما أنشئت سكة الحديد ومر أول قطار من فاقوس إلى الصالحية أن دعوا موظفى القطار لحفل أقاموه على قضبان الطريق، رجاء أن ينزلوا على إرادتهم في ضيافة كريمة ، ولكن سائق القطار كان إنجليزياً فلم يحفل بدعوتهم ، ولم يأبه لكرمهم ، ودهم طعامهم ، وضرب المثل بهم من ذلك الحين" بأن الشرقية عزمت الوابور ".

 

وقبل انتشار السيارات كانت العرائس تنقل على الجمال فى الهوادج ، فإذا مرت على قرية في طريقها هب أهل القرية لدعوتها إلى ضيافتهم ، ورفعوا رأس الذبيحة على هراوة طويلة (نبوت) فيأتي وفد العروس الدعرة غالباً اعتزازاً بشجاعتهم ، وإدلالا بها أمام عروسهم كعادة العرب الأولين ولئلا يتأخروا عن الساعة المضروبة لوصول العروس إلى بلدها ، فتقوم المعارك الشديدة بين الفريقين، ويعتبرون الشرف في انتصارهم ورفض الدعوة .

وإليك بعض عاداتهم في المأتم إذ لانزال بعض القرى تخرج الموائد من بيوتها بجانب مائدة أهل المأتم مرتين في اليوم ، وتستمر طيلة أيام المأتم الثلاثة ، كما أن كثيرا من القرى في شهر رمضان لا يزالون يخرجون موائدهم ، ويضعونها بعضها بجانب بعض على جانبي الشارع قبيل الغروب ، ليطعموا السائل ، والغريب ، والضيف .

 

 الغيرة والعفاف :

 

قد حالف عفاف الشرقية الزمان حتى ضرب بأهلها المثل فيه، فقد شهد أحد أمراء الوجه القبلى ابنة أمير بوباستس في حفل ، فطلبها لنفسه وعرض عليها أموالا وافرة فردتها قائلة للرسول : "اذهب فلست بغيا أسلم بالمال ، ولن ينال ودى مادمت حية " .

 

وكان لتعاليم سيدنا سليمان عليه السلام ، صهر شيشنق الشرقاوى أعظم الأثر في الشرقية ، وكلها تحض على مجانبة المرأة الأجنبية والتحذير من الوقوع في أشراك النساء .

و عمرت الشرقية بالعرب في صدر الإسلام ، وكانوا أحرص الناس على الائتمار بأوامر القرآن الكريم التي تحث على العفاف ، وأمامنا الزقازيق ومراكز الشرقية لم تتمش نساؤها كثيراً مع المدنية وإن أخذت منها بحظ : فذلك فيما لا يمس شعور الغيرة وأنف العفاف .


وإذا رأى الأهلون بعض الخارجات على الحشمة والآداب في أزيائهن ومشيهن ، ميزوهن وعرفوا أنهن غريبات عن الشرقية.

.
الصدق:


ولقد التزموا الصدق فدعاهم ذلك إلى الصراحة فبرءوا من الغش والنفاق والمداهنة ، وذهب عنهم الرياءوخلف الوعد والخيانة ؛ لأن هذه الراذئل وليدة الكذب، والصدق حافظ من الوقوع فيها، وقد رماهم أهل المديريات الأخرى بالبله ( العبط ) بسبب ذلك ، ولكن انتشار التعليم ، وكثرة الانتقال ، وتبادل المنافع أزال عن بصائرهم غشاوة البله ، وقلة التجربة، فأدركوا الحسنين .

 

 

البر :

 

وقد كشف لنا التاريخ عن صاحب بقرة بني إسرائيل، وأنه كان من هيرو بوليس (صفط الحنا) وحادثهأ قوى دليل في حوادث التاريخ على بر الوالدين .

 


فقد حدث البخاري عنه أنه لبث ليلة يحمل كوب اللبن على يده ريثما تستيقظ أمه المريضة ، فلم تتنبه حتى الصباح ، فلما رأته على تلك الحال عز عليها ما تجشمه من أجلها . فقال لها : والله يا أماه ماجزينك ولا بزفرة واحدة في الحمل بي.


ولما أخذوا بحظ وافر من الدين الإسلامي على أيدى العرب الفاتحين والمجاورين ، نشأ فيهم روح البر بالآباء والإحسان إلى الأهل والأقرباء ، بخلاف مانرى ونسمع فى المديريات الأخرى من عقوق الأبناء الأهليهم إلى حال تفضى للقتال  وتنتهى إلى المحاكم .


ولما رأى المتصوفون وأهل الورع والتقوى كرم هذه المديرية وعطفهم على الدين ، وعظيم تقديرهم لأهله وفدوا عليها فصارت مزرعة خصبة لهم ، فكثر الأولياء في صحاربها وقراها ، وكلهم قد أبدى من الكرامات ما كان له أطيب الأثر فى البيئة وتقوية روح الاعتقاد في الله ، وجر ذلك إلى إحياء الموالد لأولئك الأولياء فروجت التجارة الوطنية البسيطة ، ونشطت المواصلات، وأنعشت الفقراء والمساكين، وأشبعتهم ثريداً ولحماً وفطيراً وخبزاً ، وطأطأت من كبرياء المتفرنجين من الطوائف المتعلمة .


وقد نشأ عن ذلك أن اندس بين المتصوفين كثير ممن لا خلاق لهم تدفعهم المادة والتماس العيش الرغد فلم يخف أمرهم على كثير من المثقفين فطاردهم الناس ، ونكصوا على أعقابهم خاسرين ، وأخذت الأذهان تتنبه إلى أمثالهم ممن خلطوا عملا صالح أو آخر سيئا من أبناء الصالحين فقد كشف نور العلم عن هذه الجراثيم الفتاكة في جسم المجتمع ، وأعانه على ذلك المنبت الكريم ، والخلق القويم عند الكثرة الغالبة من أهل هذا الإقليم .

 

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا


المراجع التاريخية :

تاريخ ابن الأثير

النجوم الزاهرة
تاریخ ابن خلدون
معجم البلدان
تاريخ الطبري


حرر المقال
ابراهیم والی
المدرس الأول بمدرسة محمد على الثانوية

٦ فبراير سنة ١٩٤٠

 

المصدر

من كتاب الشرقية وسيناء بحث تنشره منطقة الزقازيق التعيمية (1368 هجرية -1949م) ص من 65 الى 74

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق